العيد المذبوح
الصمود//مقالات//البتول المحطوري
في صباحيات العيد ترى المدن كستها الأفراح ، والنوافذ تتغنى بالأهازيج، والمداخن تنبثق منها رائحة الطعام الشهي، لتأتي التكبيرات كغيمة جميلة تُحيط بالأرض وتلونها بألوان الحياة ، والصلاة تُعطر النفوس ،وبسمة الطفولة تنبت العشب الأخضر .
أما في غزة، فإن صباح العيد يأتي متثاقلا بالجراح، يتكئ على عكاز الخيبة، ويجر وراءه طيف الموت، هنا لاتفرح النوافذ، بل تغلقها الأحزان، ولا يُشتم رائحة الطعام، بل يفوح رائحة البارود، وتغيب التكبيرات خلف هدير الطائرات، ليختفي العشب الأخضر ويفرش اليابس.
في غزة العيد شبيهٌ بأكواب فارغة طال عليها الزمن حتى احتضنها الغبار، وإن امتلأت بعد فترة من الزمن ماتمتلئُ إلا بالوجع والألم والغياب، ولايسمع منها إلا أنين الأرامل وبكاء الأطفال.
عيد الأضحى، عيد الفداء، يأتي هنا على هيئة سؤال موجع: من يفدي من؟ ومن يذبح لأجل من؟ ففي كل شارع وكل بيت مأتم، وفي كل قلبٍ مفجوع حكاية تنزف بصمت.
إذا قررت زيارة غزة في العيد، فلا تبحث عن الزينة؛ فالركام لايعرف الفرح، حتى الخيام هناك أصبحت كئيبة، فبدل أن تحوي العيد بين أقمشتها المهترية ؛أصبحت مقرًا للموت .
العيد في غزة ليس قطعة نقدية ولا حلوى متنوعة؛ بل كسرة خبز حتى وإن كانت قاسية ليقضم عليها جار ويمررها إلى أخر، في طقوس من التضامن النبيل، حيث الكرم لا يحتاج إلى مال، بل إلى قلب ينبض رغم الجراح.
لا خِراف تساق إلى الذبح؛ فالدماء التي غمرت الشوارع تكفي، والمجازر اليومية جعلت من كل بيت ُسلمًا لتضحية، هنا تذبح الحياة على قارعة الطريق، ويقدم الإنسان نفسه قربانًا من الكرامة والعزة لله.
في غزة تبكي الأمهات بصمت، كي لا يضعفن روح أبناءهن، ويغسلن قلوبهن بماء الصبر؛ لتصبح منارة في تقديم القرابين، وأرضًا يُشرد الإنسان من داره؛ ولكنه يبقى عزيز النفس قوي الإرادة.
الطفل الغزي لايسأل عن بهجة العيد؛ بل يسأل عن أمه المفقودة، عن ألعابه المهترئة، عن مدرسته التي بناها من أحلامه لِيسقط سقفها ولم تسقط من ذاكرته، هو لايطالبُ بالكثير ؛ فقط يُريد أن يضحك دون خوف، أن يأكل قطعة حلوى ومعدته ممتلئة بالطعام، أن ينام دون أن تزرع الطائرات في أحلامه أصوات الحرمان.
رغم كل شيء؛ تنبعث من غزة حياة مفعمة بالأمل، وتكبيرات تخرج من بين الأنقاض، وضحكات تُسرق من فم الحزن، والصلوات ترتفع من على باب المساجد المهدمة، غزة أصبحت اليوم رمزًا لهذه الأمة الكبيرة، تعلمها كيف يكون الصبر وكيف يصنع من الموت ولادة.
ليذبح الصمت العالمي، ولتذبح الضمائر التي اكتفت بالمشاهدة؛ فدماء شهداء غزة يرسلون رسالتهم للعالم: “نحن هنا، فوق الأرض و تحت الأرض”