الصمود حتى النصر

ثورة 14 أُكتوبر وإسقاط مشروع الجنوب العربي

الصمود – بقلم/ محمد صالح حاتم

لم تكن ثورة الـ14 من أُكتوبر عام 1963م حدثًا عابرًا في تاريخ اليمن، بل كانت واحدة من أعظم محطات النضال الوطني في وجه الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدر جنوب اليمن أكثر من 129 عامًا، محاولًا بكل وسائله السياسية والعسكرية والثقافية أن يطمس هُـويَّة الشعب اليمني، ويفصل جنوبه عن شماله، ويؤسس كيانًا مصطنعًا يخدم مصالحه الاستراتيجية في المنطقة.

قبلَ اندلاعِ الثورة، سعت بريطانيا إلى تأسيسِ كَيانٍ بديل عن وجودها المباشر في الجنوب عبر ما سُمّي بـ اتّحاد الجنوب العربي، وهو مشروع سياسي احتلالي أعلن عنه عام 1959م، وضمّ مشيخات وسلطنات جنوبية صغيرة كانت تخضع للحماية البريطانية.

الهدفُ الحقيقي من هذا الاتّحاد لم يكن توحيدَ الجنوب كما رُوِّج، بل نزع الهُـويَّة اليمنية من الجزء الجنوبي من اليمن، وكذلك إقامة دويلة تابعة لبريطانيا تُدار من خلفِ الستار، تكون حاجزًا جغرافيًّا وسياسيًّا بين اليمن الموحّد وبين البحر العربي والمحيط الهندي، وتضمن استمرار النفوذ البريطاني في عدن بعد خروجها الشكلي من البلاد.

لقد أرادت بريطانيا أن تصنعَ دولةً وظيفيةً على غرار ما فعلته في أماكن أُخرى من العالم، مثل دويلات الخليج العربي، لتكون دولة لا تمتلك قرارها، وتخدم المصالح الغربية في باب المندب وخليج عدن، وتحول دون وَحدة اليمن ونهضته.

لكن وعي الشعب اليمني وإصراره على الحرية أفشلا تلك المخطّطات، فانطلقت ثورة 14 أُكتوبر 1963م من جبال ردفان بقيادة راجح بن غالب لبوزة ورفاقه الأحرار، لتعلن بدء مرحلة الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني.

توسعت رقعة الثورة حتى شملت مختلف مناطق الجنوب، وانتصرت إرادَة الشعب في 30 نوفمبر 1967م بطرد آخر جندي بريطاني من عدن، وإسقاط مشروع الجنوب العربي إلى غير رجعة، وإعلان جمهورية اليمن الجنوبية الشعبيّة كدولة وطنية مستقلة نابعة من إرادَة شعبها، لا من إرادَة المستعمر، ثم عُدِّل اسمُها إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبيّة، حتى قيام الوحدة اليمنية بين شطرَي اليمن في 22 مايو 1990م، وإعلان قيام الجمهورية اليمنية.

لقد كان إسقاط مشروع “الجنوب العربي” انتصارا للهُـويَّة اليمنية، ولحلم الوحدة، ولإرادَة الاستقلال الكامل عن التبعية والهيمنة الأجنبية.

وبعد أكثر من نصف قرن على طرد الاحتلال، تعود بعض الأصوات -ممثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي- لتتبنّى مشروع بريطانيا وحلمها القديم “الجنوب العربي”، وإن اختلفت أدواته وشعاراته.

فالمجلس الانتقالي الذي نشأ بدعم وتمويل إماراتي يسعى لتكريس واقع الانقسام، وإعادة رسم حدود ما قبل الوحدة، تحت مبرّرات سياسية ومناطقية، متجاهلًا أن الانفصال لا يخدم إلا أجندات خارجية، وأنه يعيد إنتاج الاحتلال في صورة “الوصاية الحديثة” عبر القوى الإقليمية والدولية.

اللافت أن القوى التي تدعم هذا المشروع هي ذات القوى التي تمكّن النفوذ الأجنبي في الموانئ والجزر والممرات المائية، تمامًا كما كانت تفعل بريطانيا في الماضي؛ مما يجعل المشروع الانفصالي امتدادًا موضوعيًّا لمشروع الاحتلال القديم.

إن التاريخ يقول إن مشروعَ تقسيم اليمن لا يمكن أن يعيش؛ لأَنَّ جذورَ الوَحدة متأصلةٌ في الأرض والإنسان والتاريخ.

لقد حاول الغازي البريطاني نزعَ الهُـويَّة اليمنية عن الجنوب وفصله عن الشمال، وفشل.

واليوم تحاول قوى جديدة إعادة المحاولة، وستفشل أَيْـضًا؛ لأَنَّ الشعب اليمني الذي أسقط اتّحاد الجنوب العربي قادر على إسقاط أي مشروع مماثل مهما تغيّر شكله أَو مسمّاه.