الصمود حتى النصر

اليمن.. جرأة السيادة وثبات الموقف في وجه البلطجة الأمريكية

الصمود – بقلم/ عبدالحافظ معجب

أثبت اليمن أن المواجهة مع أمريكا لم تكن كما صوَّرها البعض انتحارًا، بل طريق إلى الكرامة وأن منطقَ القوة لا يُفهَمُ إلا بلغة القوة. 

منذ منتصف القرن العشرين حين خرجت الولاياتُ المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية وهي تتربَّعُ على عرش القوة الاقتصادية والعسكرية، بدأت مرحلةٌ جديدة من التاريخ البشري عُرفت بسياسة الهيمنة الأمريكية على العالم خَاصَّة على الدول العربية والإسلامية التي كانت في طور الاستقلال والتحرّر من الاستعمار الأُورُوبي، لم تكن واشنطن بحاجة إلى إرسال الجيوش في كُـلّ مرة فقد وجدت في “العقوبات الاقتصادية” سلاحًا جديدًا أكثر فتكًا وأقل كلفة تستخدمه ضد أية دولة ترفض الخضوع لإملاءاتها أَو تسير خارج الفلك الغربي الذي تقوده، ومنذ ذلك الحين تحولت وزارة الخزانة الأمريكية إلى ما يشبه وزارة حرب مالية تتحكم في مصائر الشعوب من خلال المنع والتجميد والحظر وتفرض على العالم إرادتها باسم القانون الدولي بينما هي تدهسه بقدم الغطرسة.

لقد استخدمت أمريكا سلاح العقوبات ضد كُـلّ من حاول أن يرفع رأسه في وجهها من العرب والمسلمين بدءًا من العراق وسوريا وليبيا وإيران مُرورًا بالسودان ولبنان وفلسطين وُصُـولًا إلى اليمن الذي يواجه اليوم هذه الهيمنة وجهًا لوجه، كانت تلك العقوبات في حقيقتها أدوات تدمير ممنهجة تستهدف الاقتصادات الوطنية وتخنق الشعوب في لقمة عيشها فقط لأنها أرادت الاستقلال أَو حاولت حماية قرارها الوطني، هكذا دمّـر العراق تحت حصار اقتصادي دام أكثر من عقد وهكذا جُوِّع الشعب السوري وعُرقلت إعادة إعمار بلاده وهكذا حوصرت إيران؛ بسَببِ برنامجها النووي رغم سلميته بينما كانت أمريكا نفسها تمتلك ترسانة من آلاف الرؤوس النووية، إنها سياسة الكيل بمكيالين التي جعلت من واشنطن قاضيًا وجلادًا في آن واحد، لا تحاسب إلا الضعفاء وتغض الطرف عن جرائم حلفائها.

لكن ما كان لهذه السياسة أن تنجح لولا خنوع كثير من الأنظمة العربية والإسلامية التي آثرت الصمت والخضوع على المواجهة والكرامة، لقد قبل أغلب رؤساء وقادة تلك الدول بالعقوبات الأمريكية وكأنها قدر محتوم، لا اقتناعًا منهم بشرعيتها، بل خوفًا على كراسي الحكم أكثر من خوفهم على شعوبهم، كانوا يدركون أن واشنطن تمتلك أوراق الضغط عبر الدعم السياسي والعسكري وأن أية معارضة داخلية قد تجد في الولايات المتحدة ظهرًا تستند إليه للإطاحة بهم، فاختاروا الانحناء بدل المواجهة، ومع أن بعض الدول حاولت التخفيف من آثار العقوبات عبر الالتفاف الاقتصادي أَو المساومة السياسية، إلا أن أحدًا لم يجرؤ على الرد بالمثل أَو على استخدام أوراق القوة التي يمتلكها العرب والمسلمون وفي مقدمتها النفط والغاز والممرات البحرية والموقع الاستراتيجي الذي يربط الشرق بالغرب، ظلّت تلك الأوراق حبيسة الخوف حتى جاء من يكسر حاجز الصمت.

اليمن الذي يعيش منذ عقد تحت نيران العدوان الذي قادته السعوديّة والإمارات بقرار وتمويل وتسليح أمريكي وإسرائيلي قرّر أن يقول كلمته بوضوح: لا للهيمنة ولا للخضوع، لم تنتظر صنعاء اعترافًا من واشنطن بشرعية ثورتها فشرعيتها منذ العام 2014 مستمدة من الشعب ومن الدماء التي سالت دفاعًا عن السيادة ومن الإرادَة الحرة التي رفضت الوصاية الأجنبية، لهذا لم ترتجف صنعاء أمام قرارات الخزانة الأمريكية ولا أمام قوائم العقوبات التي تحاول واشنطن فرضها على قياداتها ومؤسّساتها بل على العكس، تعاملت اليمن الثورية مع تلك العقوبات بشجاعة نادرة وأعلنت المعاملة بالمثل فأصدرت قوانينها الخَاصَّة التي تفرض عقوبات على الدول والكيانات والأشخاص المتورطين في العدوان على اليمن أَو الداعمين للاحتلال الإسرائيلي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.

منذ العام 2024 بدأت صنعاء خطواتها الجريئة بإعلان قائمة من الشركات الأمريكية العاملة في مجال السلاح والطاقة ضمن العقوبات اليمنية ثم توسعت الإجراءات حتى شملت كيانات وأفرادًا انتهكوا قرار اليمن القاضي بحظر تصدير النفط الأمريكي، هذه الخطوة لم تكن رمزية فحسب بل كانت إعلانًا عن دخول اليمن مرحلة جديدة من ممارسة السيادة الفعلية واستخدام منطق القوة في وجه الغطرسة الغربية، لقد امتلك اليمن أوراق ضغط حقيقية بفضل موقعه الاستراتيجي الفريد المطل على البحرين الأحمر والعربي وتحكمه في مضيق باب المندب أحد أهم الممرات البحرية في العالم، ومع اتساع نفوذه البحري وتطور قدراته العسكرية الصاروخية والبحرية تحوّل اليمن من بلد محاصر إلى قوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب.

لقد أجبرت النيران اليمنية البوارج وحاملات الطائرات الأمريكية والبريطانية على مغادرة البحر الأحمر وفرضت واقعًا جديدًا في الملاحة الدولية لم يكن أحد يتخيله قبل سنوات قليلة، وفي هذا السياق أكّـد الرئيس مهدي المشاط أن توقف العدوان الأمريكي على اليمن كشف للعالم بأنه “لا خطر على ملاحة أحد لم يعتد أَو يدعم إجرام الصهاينة”، في إشارة واضحة إلى أن مزاعم واشنطن حول تهديد الملاحة كانت ذريعة لتبرير عدوانها.

وردًّا على من يروّج بأن العقوبات اليمنية تمثل إلغاء للهُدنة أَو عودةً إلى التصعيد مع واشنطن، فإنَّ الحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح هي أن هذه العقوباتِ ليست سوى استمرار طبيعي لحالة الندية التي أرساها اليمن في علاقته مع الولايات المتحدة، وعلى من يردّد مثل هذه المزاعم أن يعود إلى تصريحات الرئيس مهدي المشاط التي كشف فيها أن القرارات والعقوبات من جانب صنعاء ستبقى ما بقيت من الجانب الأمريكي، في تأكيد صريح على أن اليمن لا يبدأ بالعدوان بل يرد بالمثل فقط، وفي هذا السياق أوضح الرئيس المشاط في تعليقه على الهدنة مع واشنطن أن ما حصل هو أن “طرفًا اعتدى وآخرَ دافع وتصدى، وبتوقف المعتدي توقف الرد”، مُضيفًا أن “بعد توقف العدوان الأمريكي على اليمن لم يتبق سوى بعض القرارات والعقوبات بين الجانبين، ونحن نتعامل بالمثل والقرار لمن بدأ”، بهذا الموقف الواضح والحازم يثبت اليمن أنه يتمسك بخيار السلام المشرف القائم على الاحترام المتبادل دون التنازل عن حقه في الرد والدفاع عن سيادته متى ما عاد العدوان أَو استمرت سياسات العقوبات الأمريكية.

إن العقوبات اليمنية الأخيرة على الشركات الأمريكية التي انتهكت قرار الحظر على تصدير النفط الأمريكي تمثل تحوّلًا نوعيًّا في موازين الردع فهي رسالة عملية إلى العالم بأن زمن الهيمنة الأمريكية يقترب من نهايته وأن الشعوب الحرة قادرة على فرض إرادتها إذَا امتلكت الشجاعة والإيمان بعدالة قضيتها ليقدّم اليمن نموذجًا حيًّا لكل العرب والمسلمين بأن الخروج من عباءة الخضوع للهيمنة الغربية ليس مستحيلًا، بل يبدأ بقرار سيادي جريء وإرادَة لا تخاف من “البعبع الأمريكي”، فحين يتسلح القادة بالإيمان بالله وبالثقة بشعوبهم وحين يستخدمون أوراق القوة التي أنعم الله بها على بلادهم من النفط إلى الموقع الجغرافي إلى الثروات الطبيعية يمكن حينها أن يتحول الضعف إلى قوة والخضوع إلى سيادة.

لقد أثبت اليمن أن المواجهة مع أمريكا لم تكن كما صوَّرها البعض انتحارًا، بل طريق إلى الكرامة وأن منطقَ القوة لا يُفهَمُ إلا بلغة القوة، وبينما يكتفي الآخرون ببيانات الشجب والإدانة اختار اليمن وقائد ثورته السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي الفعل لا القول، والسيادة لا التبعية، والحرية لا الخوف، إنها رسالة لكل العرب بأن الهيمنة ليست فرضًا، وأن من يتجرأ على الوقوف في وجه الطغيان الأمريكي يكتشف أن الوحش الذي أرعب العالم لعقود ليس إلا صنمًا من ورق حين يواجه شعوبًا حرة تعرف طريقها إلى العزة والكرامة والسيادة والاستقلال.