الصمود حتى النصر

الخزي يرسمه المطبعون بدم المستغيثين .. والتاريخ يكتبه الصادقون بالنار

الصمود||تقرير||عبد القوي السباعي

في اليوم الـ 585 من المحرقة الصهيونية وحرب الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي لسكان قطاع غزة؛ لا تزالُ رائحةُ الشهادة تختلطُ برائحة الدماء والدخان، التي تسكُنُ زوايا المخيمات وتفاصيل الأزقَّة والبيوت المهدَّمة.

وفيما تحترقُ في أَتون جريمةٍ ممنهجة، يتواطأ فيها الغرب، ويتخاذل العرب؛ بات كُـلّ شيء في غزة هدفًا: “الحجر، الشجر، ملامح الوجوه، وحتى الأمل يدفن تحت الركام”، فيما العالم “المتحضر” يدير ظهره، و”الإخوة” يصفقون للقاتل.

في مشهدٍ بالغ التناقض، ألقى الرئيس الأمريكي “ترامب” خطابًا استعراضيًّا في الرياض، استمر خمسين دقيقة، دون أن يذكر غزةَ ولو عرضًا، في تجاهلٍ فجٍّ لمأساة العصر، بينما صفّق له الأعراب بحرارةٍ شديدة، ووقفوا له أكثر من مرة، وكأن المجازر اليومية في القطاع لا تستحق حتى الإشارة.

الصمت المشين لا يكشف فقط كذب أمريكا وادِّعاءَها الزائف؛ بل يفضح مسرحية “التحالفات” التي تقودها واشنطن في بلاد الجزيرة العربية، ويكشف بجلاء أن ترامب ما جاء إلا لأخذ الجزية العربية من حكام أنظمة لو دفعت ربع ما أخذ ترامب لغزة، لاختلفت مسارات المواجهة في حقبة الصراع.

جزيرة العرب -في عهد حُكم أسري صعَّده بريطانيا- لم تكن يومًا خارج عباءة أمريكا، غير أن الجزيةَ التي تعوّدوا دفعَها بدت تحرج الحكام، وبالتالي لا بُـدَّ من تأطيرها بعناوينَ أُخرى كالاستثمار في مشاريعَ إعلامية أكثر منها واقعية، ترامب صريح جِـدًّا حتى أنه طالبهم بشجبِ الـ 7 من أُكتوبر المجيد، وتغافل عن 585 يومًا من الإبادة الجماعية والدمار الشامل والحصار والتجويع.

بموازاة العدوانِ الصهيوني، تحاولُ الإدارةُ الأمريكية فرضَ رؤيةٍ مغلَّفة بالمساعدات، لا تخلو من الابتزاز، الخُطَّة التي أعلن عنها ترامب لمساعدة غزة، تضعُ الفلسطينيين تحت رقابة أمنية مشدّدة، وتعيد إنتاج الاحتلال بمظهرٍ إنساني زائف.

إذ كيف يُعقَلُ أن يقدِّمَ من قطع تمويلَ الأونروا مساعداتٍ مشروطةً، ومَن تحدث عن خطط التهجير، أن يتحدَّثَ عن “الرحمة”، وهو يدعمُ أكبرَ مجزرةٍ في العصر الحديث؟

وسطَ هذا المشهد المظلم، وفي حين تصرُخُ غزة وحدَها، وينام أطفالُها على بطون خاوية، اختار اليمن أن يكونَ الصوتَ الآخرَ الذي لا يساوم، ثلاث عمليات صاروخية خلال أقلَّ من يوم، جاءت في توقيتٍ مدروس، وباستراتيجية واضحة: “وقف المجازر، وفضح التواطؤ، ومواجهة الاحتلال بالصواريخ لا البيانات”.

صوتٌ واحدٌ انبثق وشَقَّ جُدران الصمت، بيان صادر عن القوات المسلحة اليمنية، اليوم الأربعاء، أعلن تنفيذ عملية نوعية باستخدام صاروخ باليستي فرط صوتي استهدف مطار اللُّـد، المسمى صهيونيًّا “بن غوريون”، في قلب الكيان الصهيوني.

العملية جاءت في سياق ثلاث عمليات صاروخية منفذة خلال أقل من 24 ساعة، من الأراضي اليمنية نحو قلب الكيان، تسببت في توقف الملاحة الجوية، وإجبار ملايين الصهاينة على دخول الملاجئ.

الصواريخ اليمنية لم تهز فقط كيان العدوّ، بل أربكت المشهد السياسي برمته، في الوقت الذي أطلق فيه ترامب خطابه الاستعراضي، كانت القوات اليمنية ترسلُ رسائلَها الناريةَ إلى عمق كيان العدوّ، في توقيتٍ يكشف وضوح الموقف واستقلال القرار اليمني المقاوم للهيمنة.

اليمن -بإمْكَاناته المحدودة- حطَّمَ وَهْمَ الهيمنة الأمريكية والحصانة الصهيونية، وأكّـد أن الردع ليس حِكرًا على جيوشٍ يقال عنها “كبرى” أَو تحالفات مدفوعة الجزية، بأكثرَ من ثلاثة تريليونات دولار.

الإعلام العبري تحدّث عن “تراجعٍ غير مسبوق في قطاع السياحة، مع استمرار تعليق الرحلات إلى المطار الرئيسي، وآخرها قرار تمديد الخطوط الجوية الكندية حتى سبتمبر، وشركة “رايان إير” الإيرلندية تمدِّدُ إلغاءَ جميع رحلاتها حتى يونيو، وبذلك تم إلغاءُ عشرات الآلاف من التذاكر الإسرائيلية”.

وزير خارجية الاحتلال كشف عن حالة “الرعب” الذي تسبِّبُه العمليات اليمنية، في صفوف المغتصبين الصهاينة، وقال مشتكيًا: إنها “جرائم حرب”؛ ما يؤكّـد أن العمليات اليمنية تضرب عمق الكيان في مقتلٍ ليس اقتصاديًّا فحسب؛ بل ونفسي.

ترامب الذي أثنى على اليمنيين في خطابه، ووصفهم بأنهم “شُجعان”، جاءه التذكيرُ بمآسي غزة بصاروخٍ فائق السرعة على مطار الاحتلال، رسالة يمنية بليغة تؤكّـد أن الميدان لا يخضعُ لمجاملات السياسة وشطحاتها، وأن من يملك إرادَةً إيمانية جهادية، يملك قدرة الردع.

ووفقًا للمعطيات، فَــإنَّ اليمنَ لا يواجهُ كَيانَ العدوّ الإسرائيلي وحدَه، بل يكشفُ خيانةَ المطبعين، وتخاذلَ مَن باعوا القضية، وخنوع أنظمة تحوّلت إلى أذرعٍ للهيمنة الأمريكية في المنطقة.

وفي زمن الاصطفاف خلفَ القَتَلَة، يصطفُّ اليمنيون خلف الدم الفلسطيني، قائلين: “لن نصمت.. ولن تُنسى غزة”، فهنا ثمة من يقف، ويقاوم، ويرد، ويثبت اليمن أنهُ جبهة متقدمة ترسم معادلاتِ الردع الجديدة، بصوتٍ لا يُشترى، وبصواريخَ لا تُكسَر.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com