بين الفيتو ونيران الإسناد
الصمود||مقالات||علي أحمد شرف الدين
على خطٍّ موازٍ للمشهد الجماهيري، صعّد خطابُ السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي درجةً إضافيةً في تحذير الرياض من «التورّط» في أي اصطفاف يُنظر إليه من صنعاء على أنه حماية للملاحة الإسرائيلية تحت عناوين أمن الممرات البحرية.
تتحَرّك صنعاء اليوم على إيقاع حشودٍ بشرية وصخبٍ شعبيّ يؤكّـد أن الشارع اليمني ما زال يرى في غزة مرآته الأخلاقية والسياسية. المليونية التي تدفّقت إلى ميدان السبعين تحت شعار «مع غزّة.. لن نقبل بعار الخِذلان مهما كانت جرائم العدوان» بدت أكبر من مُجَـرّد تظاهرة؛ كانت استفتاءً مفتوحًا على خيار اصطفافٍ رمزي وعملي مع القضية الفلسطينية، ورسالة موجّهة إلى الداخل والخارج بأن الكلفة الاجتماعية لأي تراجع عن هذا الخيار باتت مقبولة ولو كانت عالية. في هذه الصورة الكثيفة من اللافتات والهُتافات، تحضر سردية ثابتة لدى جمهور واسع: أن ما يجري في غزّة ليس حدثًا بعيدًا ولا مِلفًّا إنسانيًّا معزولا، بل عنصرٌ مكوّن في هُـوية سياسية صُلبة تتيح للسلطة الثورية في صنعاء تعبئةً مستدامة، وحيازة تفويض شعبي لمقاربات أكثر خشونة في البحر والجوّ.
على خطٍّ موازٍ للمشهد الجماهيري، صعّد خطاب السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي درجةً إضافيةً في تحذير الرياض من «التورّط» في أي اصطفاف يُنظر إليه من صنعاء على أنه حماية للملاحة الإسرائيلية تحت عناوين أمن الممرات البحرية. واللغة المستخدمة بدت محسوبة: نصائح تنطوي على تهديد صريح، تُبقي باب الرسائل المضمرة مفتوحًا وتُقفل في الوقت نفسه منافذ سوء الفهم. هنا تشتغل المعادلة الدقيقة: صنعاء تقول للسعوديّة إن أي تموضع جديد في البحر الأحمر والخليج قد يُحتسب جزءًا من الحرب الدائرة، والرياض تدير حسبةً أعقد بين ضرورات أمن التجارة العالمية ومقتضيات التبريد السياسي بعد مسار التهدئة الطويل مع اليمن. فالتوتر الهادئ في هذه الزاوية يكمن في أن الخطأ في تقدير النيات قد يتحول، بسرعة البرق، إلى اشتباك لا يريد أحد تمديده.
في الخلفية، تبرز مبادرة سعوديّة-بريطانية تعلن دعم ما تسميه «خفر السواحل اليمني» الواقع ضمن بنية قوات المرتزِقة المحليين المناوئة لصنعاء. فالإعلان حشد مساهماتٍ وتبرعاتٍ من دولٍ عدة، وقدّم مسلكه؛ باعتبَاره مسعىً تقنيًّا لحماية الملاحة والتجارة. غير أن القراءة المقابلة في صنعاء ترى في هذا المسعى غطاءً سياسيًّا وأمنيًّا لاستحداث خط تماسٍّ محلي يعرقل عمليات اليمن البحرية المرتبطة بمساندة غزة. بين السرديتين يتبدّى الفارق في تعريف «الأمن البحري»؛ فبالنسبة لداعمي المبادرة هو استقرار مسار السفن وانسياب التجارة، وبالنسبة لخصومها هو محاولة لتحييد أدَاة ضغطٍ استخدمها اليمن لإيلام (إسرائيل) وشركائها. وهكذا ينتقل النقاش من لغة القوانين البحرية إلى معجم الاصطفافات، وتصبح كُـلّ مساعدةٍ تدريبية أَو تمويلية قابلة لأن تُقرأ كحجز مقعدٍ على طاولة صراعٍ أكبر.
يتقاطع هذا كله مع مسارٍ عسكري لا يني يتوسع. الطائرات المسيّرة والصواريخ التي أعلنت صنعاء نجاح وصولها إلى عمق أم الرشراش (إيلات) وتجدّد الاستهداف على تخوم يافا المحتلّة (تل أبيب) ترسم قوسًا من الإرباك يمتد من البحر الأحمر حتى جنوب فلسطين المحتلّة ووسطها. ورغم تفاوت السرديات حول حجم الأثر الميداني، فَــإنَّ الثابت أن دائرة «الضربة والردّ» ترسخت، وأن قواعد الاشتباك تتبدّل ببطء ولكن بثبات: كُـلّ اعتراض ناجح يولد محاولةً التفاف جديدة، وكل إصابة جزئية تُقابَل بمقاربةٍ دفاعية أشدّ إحكامًا. ومع الوقت، يتحوّل الاستثناء إلى نمط، ويتشكل شعورٌ بأن الطرفين دخلا دائرة مغلقة: اليمن يؤكّـد قدرته على الإزعاج البعيد، و(إسرائيل) تواجه تحديًا غير تقليدي لا تُشبه معادلته معادلات جبهاتها الأقرب.
من زاوية صنعاء، تُستخدم هذه العمليات بوصفها امتدادا مباشرًا لمعركة غزة. فهي لا تُقدَّم؛ باعتبَارها «حرب اليمن مع إسرائيل» فحسب، بل كجزء من منظومة إسنادٍ سياسي وعسكري لقطاعٍ يتعرض لتدميرٍ ممنهج. لهذا تبدو المليونية في السبعين وقودًا رمزيًّا يمدّ هذا الخيار بشرعية اجتماعية، ويمنح القيادة هامش مناورةٍ أوسع إزاء ضغوط إقليمية ودولية لإعادة تعريف «الهدف المشروع» و«الممر الآمن». ومن زاوية تل أبيب، تُقرأ هذه الضربات كاختبار دائم لقدرات الدفاع بعيد المدى، وكنقطة ضعفٍ مكشوفة في معادلة الردع إذَا ما تراكمت وترافقت مع أعباء الجبهات الأُخرى.
كل ذلك يجري على خلفية غزة التي تتعرض لقصفٍ متصاعد يستهدف عمرانها وبناها وذاكرتها، وسط انسدادٍ دولي بلغ ذروته مع الفيتو الأميركي السادس الذي أطاح بمسعى جديد لوقفٍ فوري لإطلاق النار. ويتبدّى الانسداد هنا ليس مُجَـرّد عُطلٍ إجرائي في مجلس الأمن، بل عنوان مرحلةٍ أخلاقية وسياسية تُفقد المجتمع الدولي أدوات التأثير السريعة وتترك الميدان لقانون القوة. حين تُغلق نوافذ الحلّ المؤسّسي، يُفتح الباب واسعًا أمام المبادرات الأحادية والتحالفات البراغماتية العابرة، ويغدو البحر الأحمر مسرحًا لرسائل الردع، فيما تصير الموانئ والممرات نقاط ضغطٍ تفاوضية مثلها مثل المعسكرات والجبهات.
الرياض، من جهتها، تحاول بناء جسرٍ بين سردية استقرار البحر ومصالح الاقتصاد العالمي وبين ضرورات عدم الانجرار إلى عمق الاصطفافات الحادّة. لكن الجسور في زمن الحروب ليست محايدة. فكل دعامةٍ تُضاف هنا تُفَسَّر هناك على أنها انحياز، وكل صمتٍ يُقرأ كضوءٍ أخضر. ومن هنا تحديدًا يشتدّ وقع التحذيرات الصادرة من صنعاء: ليس المقصود إيقاف الحركة بالكامل، بل إفهام الجار اللدود أن خطوط التماس الجديدة قد تبتلع هامش المناورة الذي أتاحته الأشهر الماضية من التهدئة الثنائية.
من منظورٍ أوسع، تعيش المنطقة لحظةَ تقاطعٍ بين ثلاثة مسارات: تعبئة شعبيّة مُستدامة تمنح شرعيةً لسياسات أكثر حزمًا، ومبادرات أمن بحريّ تتعاظم تحت مظلة حماية التجارة، واشتباك عسكري يتّسع ببطء ويعيد تركيب معادلة الردع بين أطراف غير متناظرة. هذا التقاطع لا ينتج استقرارا؛ إنه يخلق توازنًا قلقًا تُدار فيه الأزمات بالأدوات المتاحة لا بالاتّفاقات الشاملة. ومع كُـلّ يومٍ إضافي من الحرب على غزة، تتراجع فرص الفصل بين المسارات، فتتزاحم الملفات فوق خطٍ واحد يمتد من صعدة وصنعاء إلى إيلات وغزة، مُرورًا بالرياض ولندن وواشنطن.
النتيجة المباشرة أن الموارد اللوجستية والقانونية تتحول أدوات صراعٍ بحد ذاتها: سفينةٌ تُفتَّش، ممرٌّ يُؤمَّن، منظومةُ دفاعٍ تُجرَّب، ومبادرةُ تمويلٍ تُوقَّع. وفي ظل هذا «التسليح المغلف» للمشهد، يصبح الخروج من الدائرة المغلقة أصعب؛ لأَنَّ كُـلّ إجراء يُبنى على سابقه ويستدعي لاحقه. وحين تتكثّـف طبقات الأزمة على هذا النحو، لا يعود السؤال: من يربح الجولة التالية؟ بل: كيف يمكن وقف نزيف الجولات نفسه قبل أن تتحول الخطوط البحرية والحدود الجوية إلى جبهاتٍ دائمة تؤسس لعدم استقرار ممتدّ؟
في المحصلة، لا تبدو بوابات نزع التصعيد مفتوحة على مصاريعها. غير أن ضيق الأفق لا يعني انعدام الخيارات، ثمة إمْكَان لمساراتٍ توظيفية تقلّل الخسائر، إذَا ما أُعيد تعريف «أمن الملاحة» تعريفًا لا يصطدم مباشرةً مع حساسية اليمن تجاه ما يعتبره حمايةً لـ (إسرائيل)، وَإذَا ما كفّت قوى الاستكبار العالمي عن إدارة مِلف غزة بأدوات الفيتو وحدها. دون ذلك، سيواصل الشارع اليمني رفد خيارات صنعاء بالشرعية، وستواصل (إسرائيل) البحث عن صيغة دفاعية تتجاوز الاعتراض إلى الردع، وستستمر العواصم المعنية في اختبار خطوطها الحمراء على مياهٍ مضطربة. وفي هذه الصورة، يبدو أن السؤال الأهم ليس أين يبدأ التصعيد، بل أين -وكيف- يمكن أن يتوقف؟!