إعادة إنتاج المنظومة “العفاشية”.. أداة خارجية لإضعاف الموقف اليمني الداعم لفلسطين
الصمود||
في ظل تصاعد الدور اليمني في مناصرة القضية الفلسطينية ومواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، يبرز على الساحة الداخلية تحرك سياسي وإعلامي متسارع تقوده قيادات معروفة الارتباط بذات الأجندات الأجنبية التي عمل على خدمتها الهالك علي عبدالله صالح خلال العقود الماضية. هذا التحرك لا يأتي في سياق طبيعي أو وطني، بل يُعاد إنتاجه ضمن خطة موجهة ومدروسة، توظف الأزمات المعيشية، والانقسام السياسي، وحالة الضغط الاقتصادي، كأدوات لاختراق الداخل، وخلخلة الاصطفاف الشعبي حول القضايا المركزية، وفي مقدمتها الموقف اليمني الشجاع والصارم تجاه قضية فلسطين ومعركة اليمنيين في مواجهة العدوان والحصار.
تظهر الوقائع الميدانية والمؤشرات السياسية أن هذا الحراك ليس نتيجة تفاعل داخلي مستقل مع الواقع الاقتصادي، بل هو جزء من مشروع خارجي أكثر اتساعًا، تُشرف عليه غرف عمليات تمويل وتوجيه من عواصم إقليمية ودولية، ويستند إلى إعادة تفعيل شبكات قديمة تدين بالولاء السياسي والوظيفي للنظام السابق، والذي يشكل امتدادًا تاريخيًا للوصاية الأجنبية. ويتحرك هذا المشروع بشكل متزامن مع التصعيد في غزة، في محاولة لصرف الأنظار، وإضعاف الموقف اليمني من الداخل، بإحياء أدوات فقدت مشروعيتها بعد أن أسقطها وعي الشعب اليمني وصموده.
بعد فشل الحصار والعدوان العسكري المباشر في كسر الموقف اليمني الداعم لغزة، وجدت مخابرات العدو نفسها مضطرة لتغيير استراتيجيتها، فاستهدفت إعادة تفعيل المنظومة العفاشية. هذه الخطوة تمثل محاولة لإضعاف صنعاء عبر خلق مواجهة داخلية تشغلها عن دورها الوطني، وتقوض من تأثيرها السياسي والاستراتيجي في دعم القضية الفلسطينية.
في هذا الإطار، باتت المنظومة العفاشية أداة رئيسية ضمن مخطط أوسع لاحتواء صنعاء، والحد من قدرتها على التأثير، عبر إشغال الداخل اليمني بمعارك مفتعلة تهدف إلى فرض وصاية خارجية جديدة على القرار الوطني. هذا التوجه يعكس تحولًا استراتيجيًا في طبيعة الصراع من المواجهة العسكرية المباشرة إلى حرب النفوذ السياسي والاجتماعي.
تجسد المنظومة العفاشية نموذجًا عميق الجذور في التبعية السياسية والعمالة للأجنبي، فقياداتها كانت عبر عقود جزءًا من شبكة العلاقات التي أدارها النظام السابق مع السفارات الأجنبية، وفي مقدمتها السفارة الأمريكية التي كانت تشرف بشكل مباشر على كثير من ملفات السياسة والأمن في اليمن. فَعلاً، أظهرت إحدى البرقيات المسربة من ويكيليكس أن صالح أخبر مسؤولًا في السفارة الأميركية بأنه “سنبرز الضربات الجوية على أنها عمليات يمنية بالكامل”، ما يعكس درجة الارتهان المذهلة للولايات المتحدة. هذا يشير مباشرة إلى حجم التنسيق بين نظام صالح والإدارة الأمريكية، وموافقته على عمليات عسكرية داخل اليمن، تحت مبرر “الحرب على الإرهاب”.
اليوم، يتوزع عفافيش الداخل والخارج على مسارين متكاملين: الأول في الخارج يتبنى بشكل علني موقفًا متماهياً مع العدو الصهيوني، والآخر في الداخل يتحرك بتوجيه غير معلن لكنه لا يقل خطورة، مستندًا إلى مرجعية عفاشية تمجد شخصًا قاد اليمن إلى الانهيار. قيادات الداخل تتحرك اليوم تحت عناوين كاذبة، تحاول إظهار الحرص على الوضع المعيشي لكنها في جوهرها أدوات جاهزة للارتباط بأي مشروع خارجي مقابل المال أو الوعد بالمناصب.
تُستخدم أدوات العفاشيين في الداخل اليوم لتنفيذ مشروع إشغال صنعاء من الداخل، ليس عبر الحرب بل من خلال تفكيك الاصطفاف السياسي والاجتماعي وخلق حالة من التوتر والاحتقان. الأسماء التي تتصدر هذا الحراك، ليست سوى واجهات لتحالف واسع تشرف عليه غرف عمليات خليجية وإسرائيلية، توزع الأدوار على الإعلام والسياسة والتمويل.
ومن ذلك، وثيقة سرية لصحيفة لبنانية اشارت إلى أن جهات خليجية صرفت ملايين الدولارات لدعم شبكات محلية في صنعاء تقوم بدور “إشغال داخلي”، مستغلة الأزمات الاقتصادية التي يتحملها المواطنون. وهذا يُوضح أن الخطاب الذي يعتمد على دغدغة معاناة الناس —كالحديث عن المرتبات والأزمة الاقتصادية— هو من قبيل “واجهة” لا أكثر، خاصة وأن تلك الكيانات لم تصدر عنها أي تنديد بحصار الموانئ أو نهب العائدات النفطية، رغم أن الأخير مثّل مئات الملايين من الخسائر التي وثقتها تقارير رسمية.
يعجز المدافعون عن المنظومة العفاشية عن تقديم أي إنجاز يُذكر خلال ثلاثة عقود من حكم صالح. العكس هو الصحيح: فساد مالي مستشري، سوء إدارة كارثي، ونهب ممنهج للثروات. رجل أعمال يمني مسؤول سابق صرّح بأن “الحكومة السابقة استأثرت بـ 60% من الإيرادات النفطية لصالح شبكتها الخاصة، بينما الأغلبية العظمى من المواطنين لا يملكون ماء صالح للشرب.” اليمن خلال حكم صالح خسر أكثر من 500 مليار دولار من العائدات النفطية والغازية دون أن ينعكس ذلك على حياة المواطنين. لا بنية تحتية، لا مشاريع حيوية، ولا خطط تنمية حقيقية.
محافظات بكاملها، كريمة والمحويت مثلاً، لم تصلها أي خدمات. حتى أطراف صنعاء ما تزال حتى اليوم دون صرف صحي أو مياه أو طرقات. مؤسسات الدولة كانت تستأجر مبانٍ متهالكة رغم موازنات ضخمة كانت تُرصد سنويًا لمشاريع التنمية. كل هذا يكشف أن العفافشة لم يكونوا يومًا معنيين ببناء دولة، بل بتأسيس منظومة فساد لحماية مصالحهم وتوريثها.
في سياق فشل المواجهة العسكرية ضد اليمن، انتقل العدو إلى استراتيجية جديدة: استخدام العفافشة كأدوات لإثارة الفوضى الداخلية. تقارير استخباراتية غربية تُشير إلى أن قيادات إماراتية وسعودية التقت بمسؤولين إسرائيليين، وتلقّت مشورة “بضرورة إشغال صنعاء من الداخل” كأداة لشل قدراتها الردعية في مواجهة غزة. هذه الأموال تتدفق، وشبكات إعلامية تضخ خطابًا مشوّهًا يستهدف المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ، بزعم الفشل الاقتصادي، دون أن يُشير أحد إلى أن المنظومة العفاشية هي من صنعت هذا الفشل وكانت من ساند الحصار بشكل غير معلن.
لا بد من التأكيد أن العفافشة لا يمثلون كل المؤتمر الشعبي العام، وأن داخل هذا الكيان قوى وطنية مخلصة حافظت على موقفها إلى جانب الشعب والوطن. كما قال قيادي مؤتمري بارز في حديثٍ إعلامي: “هناك من صمدنا معه على خط الوطن الحقيقي، ولا يجوز أن يُحسبوا ضمن خانة الخيانة.” أما من خان منذ اليوم الأول، وانخرط في تحالف العدوان، فهم جزء من المشروع الخارجي ولا يجب الخلط بينهم وبين من ظل ثابتًا في موقفه.
هذا التفريق لا يخدم فقط النزاهة السياسية، بل يحمي الساحة الوطنية من الانقسام الحاد الذي يسعى العدو إلى تغذيته. على الإعلام والسياسة أن يكونا أكثر دقة في توصيف المشهد، لأن التعميم يخدم العفافشة ويبرر اختراقاتهم.
في خضم معركة اليمن الداعمة لقضية فلسطين، تتحرك القوى المعادية بتكتيكات جديدة تسعى لإعادة إنتاج منظومة عفاشية لم تعد تمثل سوى خنجراً مسمومًا في خاصرة الوطن. إعادة تفعيل هذه المنظومة هو محاولة بائسة لاحتواء صنعاء، ونسف دورها الاستراتيجي، وإشغال الداخل بمعارك جانبية تخدم أجندات خارجية، في ظل تحديات معقدة يواجهها الشعب اليمني.
تتطلب المرحلة الراهنة من القوى الوطنية الحيطة واليقظة، وترسيخ وحدة الصف، وتفكيك أدوات الوصاية القديمة والجديدة، لتتمكن اليمن من تجاوز محاولات فرض السيطرة عليها، ولتحافظ على موقفها الرافض للعدوان والداعم لشعب فلسطين في معركته العادلة.
نقلاً عن موقع 21 سبتمبر