الصمود حتى النصر

لا تنشغلوا بالتفاصيل.. المعركة الحقيقية هناك

الصمود||مقالات||مبارك حزام العسالي

في زمن الضجيج، تُفتعل القضايا وتُضخّم التفاصيل، ويُراد لنا أن نُشغل بأنفسنا، بخلافاتنا، وبما لا يغيّر شيئًا في معادلة الواقع سوى أنه يُبعدنا عن الحقيقة. يحدث هذا دائمًا حين تقترب الشعوب من جوهر المعركة، أَو تلامس وعيها الجمعي لحظة صدق.

كم من قضية أُعيد طرحها بعد أن تجاوزها الزمن، لا لشيء إلا لتكون وسيلة تشتيت، ولتفتح أبواب الجدل العقيم، وتستهلك الوقت والذهن والطاقة؟

وكم من نقاش بدا في ظاهره جادًّا، لكنه في عمقه لم يكن أكثر من دخان يخفي النار الحقيقية المشتعلة في مكان آخر؟!

في لحظات كهذه، لا بد أن نُبقي البوصلة ثابتة، نُدرك أين نقف، ومن العدوّ، وما هي المعركة. إن ما يُطرح في الساحة اليوم من ملفات مستهلكة أَو مواقف قديمة لا تستحق إعادة النبش، ليس سوى محاولة مقصودة لإشغال الناس، وصرف وعيهم عن مجازر تُرتكب كُـلّ يوم، وعن معاناة تُخنق بصمت العالم.

اليوم، هناك من يُجَوّع، ويُحاصَر، ويُقصف، ويُباد تحت نظر وسمع البشرية…

اليوم، غزة تُصلب على مرأى من العالم.

يموت أهلها جوعًا، لا يجدون حليبًا لأطفالهم، ولا دواءً لمرضاهم، ولا قبورًا لشهدائهم.

ورغم ذلك، يُراد لنا أن نغرق في الجدل حول من قال ومتى، ومن ظهر وأين، وما الذي قصده فلان أَو فُهِم من كلام علّان.

يا أبناء هذه الأُمَّــة، هذه ليست صدفة، ولا بريئة.

إنها سياسة قديمة جديدة: إذَا لم تستطع أن تُسكت صوت الشعوب، فأغرقه في الضجيج.

إذا لم تستطع أن تُلغي الوعي، فشوّشه.

وإن لم تستطع قتل الإرادَة، فأرهقها بالقضايا الثانوية.

لكن الشعوب التي جرّبت الموت جوعًا، ودفنت أبناءها تحت الركام، وتعلمت أن تنتصر بأظافرها، لا يجب أن تُخدع بسهولة.

هذه الشعوب هي التي يُراد إلهاؤها اليوم، لأن وعيها أصبح مزعجًا، وتحَرّكها بات مقلقًا، وصوتها صار يفضح صمت العالم.

حين تصبح الأخبار العاجلة عن المجازر أمرًا اعتياديًا، وحين يتعامل الإعلام العالمي مع أكبر كارثة إنسانية وكأنها هامش في نشرته، يكون من الطبيعي أن تُصنَع قضايا بديلة، وهموم مصطنعة، ومعارك جانبية، الهدف منها واضح:

لا تدعوا الشعوبَ تركز على غزة، لا تسمحوا لهم أن يتحدوا؛ مِن أجلِ فلسطين، اشغلوهم بأي شيء آخر.

لكننا نعرف، وندرك، ونُحذّر.

العدوّ يريدنا في دوامة الكلام، بعيدين عن ميادين التأثير.

يريدنا أن نستهلك بعضنا في صراعات لفظية، بينما يسحق شعبٌ بأكمله تحت الحصار.

إن كُـلّ لحظة ننشغل فيها عن غزة، هي لحظة يتم فيها قصف منزل، أَو قتل طفل، أَو تجويع أسرة.

كل دقيقة نقضيها في الرد على فتنة إعلامية، هناك من يموت صامتًا في المخيمات وتحت الركام.

فلا تخونوا اللحظة.

لا تفرّطوا بالبوصلة.

لا تسمحوا لأحد أن يسرق منكم العنوان.

غزة هي المعركة.

الكرامة هناك، والصمت خيانة.

والمعركة لم تنتهِ بعد.

فلنرتقِ بالوعي فوق الاستدراج،

ولنكن على يقظة دائمة… فالعدوّ لا يرتاح حين نصمت، بل حين ننشغل.