زوار أكثر من ضيوف.. وزيارات بطعم البترودولار
الصمود||تقرير||عبد القوي السباعي
منذ أن وطأت أقدامُ أول رئيس أمريكي أرضَ العالم العربي عام 1943م، توالت الزياراتُ الرئاسيةُ الأمريكية إليه كالسيل، لم تأتِ لتُفرِغَ حمولتَها وُدًّا وسلامًا، بل محمّلة برسائل الهيمنة، وخطط السيطرة، وضمان المصالح الأمريكية، وأهمُّ من هذا وذاك، تأمينُ بقاء “إسرائيل” كقوةٍ فوقَ كُـلّ العرب.
82 عامًا من الهيمنة الأمريكية على المنطقة، من “فرانكلين روزفلت إلى دونالد ترامب”، مُرورًا بكبار صانعي السياسات في البيت الأبيض، لم تكن الزياراتُ الرسمية مُجَـرّدَ جولات دبلوماسية أَو مشاورات تقليدية، بل كانت بمثابة مواسم تثبيت نفوذ، وإملاءات ناعمة على العروش والكراسي في عالمٍ عربي مزّقته التبعية والانبطاح.
جاءُوا باسم “الأمن المشترك”، فزرعوا قواعدَهم، وتحت شعار “محاربة الإرهاب” فدمّـروا بلدانًا، جاءوا باسم “نشر الحرية والديمقراطية” فأبادوا شعوبًا ومزقوا مجتمعات، وحين تحدثوا عن “السلام”، كان المقصود دومًا هو الاستسلام أمام المشروع الصهيوني.
بدءًا بالسعوديّة والتي كانت وحدَها المسرحَ الأبرزَ لعروض الولاء والصفقات، ومن لقاء “روزفلت بالملك عبد العزيز بن سعود” على متن الطراد الأمريكي “كوينسي”، إلى رقص “ترامب بالسيف في الرياض” وإبرامه صفقات قُدِّرت حتى الآن بأربعة تريليونات دولار فقط، وكانت أمريكا وحدها تعرف جيِّدًا من أين تُشعل الفتيل، ومن أين تحصد الذهب؟
وما بين مؤتمرات قاهرة 1943م، واجتماعات “البنتاغون” في قاعدة “السيلية” العسكرية، ولقاءات “المالكي” في بغداد، إلى دوي الصواريخ والقنابل، في بغداد وصنعاء وغزة وبيروت والضفة ودمشق، ظل الرؤساء الأمريكيون يتناوبون على إدارة المسرح الدموي الكبير الممتد من الخليج إلى المحيط، ومن النهر إلى البحر.
كل رئيسٍ له بصمته، “نيكسون” في دمشق، “كارتر” في الكنيست، “بوش” في بغداد، “كلينتون” في عَمَّان، “أوباما” في القاهرة، “بايدن” في تل أبيب وغزة المحترقة، و”ترامب” أطل من قاعدة “العُدَيْد” في الدوحة بعد الرياض، ليلتقي بجناح “ماسون العرب” في أبو ظبي.
كُلُّ زيارةٍ أمريكية كانت تُخلِّفُ وراءَها تسوياتٌ مذلَّة، وخياناتٌ كارثية، وطعناتٌ جديدة للقضية الفلسطينية، وخرائطُ الدم تتبدَّل، وممالك رُعب تنمو وأُخَرُ تجمَّد، بحسب رغبة اللوبي في البيت الأبيض؛ إذ لم تكن حربُ العراق ولا العدوانُ على اليمن ولا (ثورة) سوريا، ولا اتّفاقيات خيانة التطبيع، ولا صفقات القرن مُجَـرَّدَ أحداثٍ عَرَضية، بل كانت الثمارَ السامةَ لسنواتٍ من الدبلوماسية الأمريكية المفخَّخة.
جميعُ رؤساء أمريكا، ديمقراطيين أكانوا أم جمهوريين، لم يختلفوا في شيء، “(إسرائيل) أولًا”، هكذا قالها ترامب صراحة، وطبّقها بايدن حين هبط في الأرض المحتلّة وسطَ حِمَمِ القنابل على غزة؛ ليمنحَ الغزاةَ قُبْلَةَ الشرعية و”القُبَّة الذهبية” لحمايتهم.
مع كُـلّ زياراتِ الرؤساء الأمريكيين التي كان تنبعثُ منها رائحةُ البارود ويصبغُها طعمُ “البترودولار”، العربُ كانوا دائمًا مُجَـرّدَ متفرجين أَو مموِّلين أَو متواطئين، ومن أجل (إسرائيل أولًا).. ظل الأعراب يساقون إلى المحرقة كالقطيع، في كُـلّ منعطفٍ لهم منذ ذلك التاريخ حتى اللحظة.
ها هو ترامب في زيارته الأخيرة، يتحدث عن “قُبَّةٍ ذهبية” وطائرةٍ من الجيل السادس، بينما غزة يموتُ أطفالُها قصفًا وجوعًا ونساؤها كَمَدًا، ويقاتلُ أبطالُها بلا سماء ولا غطاء، ويكشفُ حجمُ “الإنفاق الأمريكي على التسلح، 10 تريليونات دولار”، كأنهم يعلنون للعالم أن منطقَ القوة هو دِينهم، وأن السلم لا يصنعه إلا من يملِكُ “الزرَّ الأحمر”.
اليوم، وبين تراجع الهيمنة واحتراق أوراق السيطرة الأمريكية تحت أقدام المجاهدين باليمن وغزة في البحر والبر والجو، تخرج الأصواتُ من قلب العروبة؛ تقول: “لا.. هنا من يرفُضُ أن تُدار شؤونُنا من واشنطن”، ويرى بأن زمنَ السمع والطاعة قد انتهى.
في اليمن، العراق، لبنان، باتت تصاغ معادلاتٌ جديدة، وها هو الشعب الفلسطيني يقدّم بدمائه في غزة أجوبةً لا تقبَلُ التأويل: أمريكا عدوُّ السلام، و”إسرائيل” كُيانٌ لقيط وزوالُهُ حتمي، والانتصار عليه وعدٌ إلهي.