الصمود حتى النصر

“الحذر”.. السلاح الحاضر في معارك اليمن

الصمود||مقالات||د. محمد البحيصي

أقول معارك؛ لأنَّ اليمن قد فرضت عليه في العقد الأخير جملة من المعارك، وذلك بعد انتصار ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ٢٠١٤.. حيثُ خاض اليمنيون معركة الداخل مع المرتزِقة أدوات الخارج. ولا تزال هذه المعركة مفتوحة لم يطو ملفها… ومعركة مع تحالف العدوان السعوديّ الاماراتي ولفيفهم، .

وهي المعركة التي وإن سكتت إلا أنها انتقلت إلى طور التآمر والتربص والكيد وإثارة الفتن… وأما معركة اليمن الثالثة فكانت مع ثالوث الشر (أمريكا وإسرائيل وبريطانيا) وهذه هي المعركة الأصيلة التي تحدث عنها السيد الشهيد القائد.. وهي التي تحمل في ذاتها صفة العداوة الدائمة المسلحة بالعقائد والمفاهيم والتصورات والتي لا تنتهي أبدًا إلا بالحسم الشامل…

هذه ثلاث معارك خاضها ويخوضها اليمنيون على مدى السنوات العشر الأخيرة.. ناهيك عن المعركة الثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية.. ومعركة الحفاظ على النسيج الاجتماعي الذي تميز به اليمن، وتطهيره من لوثات النظام البائد.. وتأهيله من جديد للاستمرار في خوض معركة اليمن نحو الحرية والاستقلال والقوة.. ودفن سياسة التبعية والوصاية إلى الأبد…

إذن هي معارك متعددة كان على الثورة الشعبية اليمنية أن تخوضها، وقد فعلت ذلك بكل شجاعة واقتدار متوكلة على الله واثقة به عاملة بحكمه.. وماضية بالإنسان ليكون إنسانًا قرآنيًّا…

ونحن الأمّة المسلمة التي كتب الله عليها الجهاد بمضمونه القرآني، حيثُ يمثل القتال شعاعًا مركزيًّا فيه.. هي من كتب عليها إعداد العدة بقدر الاستطاعة كمقدمة ضرورية لفريضة القتال من جهة.. والتي بقدر ما يستخدم فيها السيف كذلك يستخدم الدرع.. وفوق هذا يأتي الإعداد وسيلة وأسلوبًا يراه العدوّ فيترك في نفسه أعمق الأثر بحيث يكون كافياً لردعه، وهذا هو معنى الإرهاب القرآني.. وهو أن تجعل عدوك يرهبك فيكف عن عدوانه وحتى التلويح به.. ويحسب لذلك ألف حساب….

ومن جملة الأسلحة التي أمتلكها اليمن وأدارها باقتدار سلاح “الحذر”.. وهو السلاح الذي أكّد عليه الله سبحانه في كتابه العزيز.. وجاء هذا التأكيد بصيغة الأمر؛ للدلالة على أهمية هذا النوع من السلاح ومكانته في معركة الحق مع الباطل..

قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ..” النساء ٧١، وقد فسره البعض بأنه ما يحذر به وهو آلة الحذر كالسلاح.. وهذا بعيد بلحاظ قوله تعالى في صلاة الخوف من نفس السورة: “.. وَليَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ…” النساء ١٠٢؛ فجعل الحذر شيئاً آخر غير السلاح … وهو ما عبر عنه في اللهجة اليمنية بـ (مدري)…..

إن الحذر هو توقي المكروه بالأسباب الممكنة المشروعة.. فهو سبب شرعه الله وأوجبه لتوقي المكروه.. وهذا المعنى شبه غائب عن ساحة أحكام الشريعة المتداولة..

وأرى أن الحذر هو معركة يخوضها المرء مع نفسه لترويضها وتربيتها وتخليصها من أمراض حب الظهور والرئاسة والتفاخر والغلو في ردود الفعل.. والثرثرة وشهوة الكلام.. وعدم الصبر على كتم السر.. واللا مبالة.. والاسترخاء.. والاستهتار بقدرة العدو.. واعتياد الأشياء بالروتين والركون إليها.. وغيرها من الأمور التي يتخذها العدوّ مصادر للمعرفة والاستطلاع..

ومن هنا يأتي سلاح الحذر (الأمن الوقائي) حائلاً بين العدوّ وبين أن يسمع أو يبصر أو يحيط بأمر من الأمور التي تخص الوطن وتكون مدخلاً لتوظيفها في معركته معه…

وقد وفق الله المجاهدين في اليمن لامتلاك هذا السلاح الاستراتيجي وتوظيفه أحسن توظيف في معركتهم مع الطاغوت.. وكشفت سنوات الحرب الطويلة ولا سيَّما الأخيرة منها عن قدرة المجاهدين على ذلك بخلاف ما رأينا في ساحات جهادية أخرى كغزة ولبنان على سبيل المثال، حيثُ رأينا الاختراقات والنتائج الكارثية جراء إهمال هذا السلاح وعدم إعطائه حقه من الوجوب والحضور…

ولا شك أن طبيعة الإنسان اليمني الحذرة بلحاظ الحياة الاجتماعية اليمنية التي زخرت بالصراعات والخلافات القبلية والسياسية كان لها الدور المهم في تكوين هذا الإنسان.. لكن إحياء الشعور بالمسئولية الجمعية كان الأهم في صناعة ظاهرة الأمن الجمعي في اليمن وعدم حصر هذه المسئولية في وظيفة أجهزة الدولة.. وهذا نادر الحدوث في بلداننا؛ نظرًا للعلاقة السيئة التي تجمع بين أفراد الشعب وهذه الأجهزة وخاصة الأمنية منها…

إن الحذر هو من نوع سلاح الوقاية والدفع وقد قيل: “درهم وقاية خير من قنطار علاج” وحين أخذ بهذه القاعدة في اليمن رأينا كيف أن العدوّ صار يخبط خبط عشواء في عدوانه.. ورأينا إفلاسه في تشخيص الأهداف وفي نتائج ضرباته العدوانية التي انصرفت للأعيان المدنية والبنى التحتية بعد يأسه من الوصول لأهداف عسكرية تفرضها قواعد الاشتباك في الحروب..

كذلك هو سلاح لا ينفك عن الحضور.. ليس في وقت الحروب فحسب، بل لعله في وقت السلم أكثر ضرورة وحاجة.. ومنه الأمن الاقتصادي والسياسي والصناعي…إلخ.

وبعبارة…فإن قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.. وفعله وسيرته.. كما في رحلة الهجرة… وكما كان يواري بالغزوة فلا يكشف عن وجهتها.. وكيف أنه عد مجرد إشارة من أبي لبابة يوم بني قريظة خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.. وقصة الظعينة التي حملت رسالة إلى قريش قبيل الفتح.. وهذا كثير.. ولست مبالغاً حين أقول إنه ما كان أحد أكثر حذرًا من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، في تحركه.. وغزوه وسراياه.. وخططه.. ونواياه..

ولقد اعترف العدوّ بأن معركته مع اليمن كانت هي الأعقد والأكثر ارتباكًا واهتزازًا في تاريخ حروبه منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية… لدرجة تشبيهه لليمنيين بالأشباح وبالصندوق الأسود.. رغم إمكاناته التجسسية الاستثنائية..

وهذا فضل من الله تفضل به على جبهة اليمن الداخلية؛ إذ جعل ثوبها من نسيج يصعب اختراقه فضلاً عن تمزيقه.. وزودها بالوعي والبصيرة القرآنية المستمدة من كتاب الله عز وجل، ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.. ومن النور الذي يمشي به السيد القائد (حفظه الله) في الناس.. ومن المجاهدين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وذابوا في قرآنهم ورسولهم وقائدهم.. فكان اليمن بهذا نعم الشعب.. ونعم القائد.. ونعم المنهاج….

الكاتب والباحث الفلسطيني

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com