ترامب بعد “الدرس البحري” اليمني: لن نرسل عناصر بحريّتنا إلى المعركة إلا للضرورة
الصمود//تقرير//نوح جلاس//
“لن نُرسل بحّارتنا إلى المعركة إلّا إذا كان ذلك ضروريًا”.. تصريح يكشف خلفية القلق الأمريكي من المواجهة مع اليمن.
في احتفال رمزي بذكرى تأسيس البحرية الأمريكية، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يتحدث بلغة يغلب عليها طابع التحفظ والحذر، قائلًا أمام جنوده: “لا نريد أن نرسلَكم إلى المعركة إلّا إذا كان ذلك ضروريًا”.
عبارة بدت للوهلة الأولى بروتوكولية، لكنها في سياق المواجهة البحرية الدائرة منذ عامين، تحمل بين طيّاتها ما هو أبعد من المجاملة العسكرية؛ إنها اعتراف غير مباشر بدرس قاسٍ تلقّته واشنطن في مياه البحرين الأحمر والعربي، حيث اصطدمت لأول مرة بقوة لم تحسب حسابها جيدًا: القوات البحرية اليمنية.
“الموج” الذي أغرق هيمنة واشنطن البحرية:
منذ أن تحوّل البحر الأحمر والعربي إلى مسرح عمليات للقوات المسلّحة اليمنية – في إطار إسناد غزة ومحاصرة من يحاصرها ويقتل أبناءها – ثم إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين اليمن والولايات المتحدة التي حاولت حماية الملاحة الصهيونية، لم يعد الحضور الأمريكي في تلك المنطقة مجرد استعراض قوة.
فالهجمات الدقيقة التي استهدفت القطع البحرية – بما في ذلك حاملات الطائرات وسفن الدعم والمدمرات ومجموعات الحماية – كشفت هشاشة التفوق التكنولوجي أمام إرادة محلية تقاتل من منطلق إيماني ووطني خالص.
ولم يكن اليمنيون يطلقون طائراتهم المسيّرة وصواريخهم البحرية عبثًا، بل ضمن استراتيجية مدروسة نقلت المعركة من شواطئ غزة المحاصرة إلى عمق البحر الأحمر، لتضرب خطوط الإمداد وتقطع شريان الدعم اللوجستي عن الكيان الصهيوني، وتجعل من كل ميل بحري مسافة للتهديد لا للأمان أو القوة.
تؤكد المعطيات المتداولة في الأوساط العسكرية أن الولايات المتحدة وجدت نفسها أمام مأزق ميداني حقيقي، إذ تحوّل البحر الأحمر إلى منطقة اشتباك عالية الخطورة، تطلّبت استنفارًا مستمرًا واستنزافًا متواصلًا لقدراتها الدفاعية.
وأمام ضربات يمنية دقيقة طالت أربعًا من حاملات الطائرات الأمريكية حتى طردتها، وعديدًا من القطع المرافقة لها، وجّهت القيادة الأمريكية أوامرها بإعادة تموضع عدد من مجموعات الحاملات بعيدًا عن مناطق الاشتباك المباشر.
بل إن التقارير الأمريكية أشارت إلى أن أربع حاملات خرجت من مسرح العمليات خلال العام الماضي، إحداها أُعلن رسميًا حاجتها إلى صيانة مطوّلة تستمر لسنوات، في دلالة على أن ما واجهته لم يكن “خللًا فنيًا”، بل أثرًا ميدانيًا لضربات حقيقية.
هذا الواقع فرض على صانع القرار الأمريكي مراجعة خياراته، فالتورط في مواجهة بحرية مفتوحة أمام خصم يملك الإرادة والابتكار في الأساليب يعني انزلاقًا نحو حرب استنزاف طويلة الأمد قد تُضعف ما تبقى من الهيبة الأمريكية البحرية.
انسحاب ترامب وتراجع الضرورة:
في مطلع مايو الماضي، بدا أن واشنطن اتخذت قرارًا صامتًا بالانسحاب من خطوط المواجهة المباشرة ووقف اعتداءاتها على اليمن؛ فقد خفّضت وجودها في البحر الأحمر، وتركت الكيان الصهيوني يواجه منفردًا تداعيات المعركة التي امتدّت لتطال موانئه وسواحله وسفنه التجارية.
لم يكن ذلك الانسحاب مجرد خطوة تكتيكية، بل تعبيرًا عن إدراك عميق لدى البيت الأبيض بأن الاستمرار في معركة لا تملك فيها واشنطن أي حلول سيكون ثمنه باهظًا، ليس ماديًا فحسب، بل على صعيد المكانة والهيبة.
حين قال ترامب: “لا نريد أن نرسلَكم إلى المعركة إلّا إذا كان ذلك ضروريًا”، كان يتحدث في ضوء هذا الوجع البحري المتراكم، ويترجم بعفوية ما بات واقعًا استراتيجيًا لا يمكن تجاهله.
فالإرسال إلى مسرح العمليات البحرية الذي تغطيه القوات المسلّحة اليمنية لم يعد نزهة عسكرية، ولا عرضًا للقوة؛ بل مهمة محفوفة بالمخاطر، واحتمالًا مكلفًا في مواجهة خصم يضرب من عمق الشواطئ، ويمتلك منظومة متكاملة من الإرادة والتقنية والجرأة.
تجربة العامين الماضيين أثبتت أن اليمن لم يعد طرفًا في “مسرح عمليات”، بل أصبح فاعلًا استراتيجيًا يرسم خرائط الاشتباك وفق معادلة جديدة: “من البحر ندافع عن القدس، ومن السواحل نكسر الحصار.”
إن قدرة اليمن على فرض معادلات الردع وإجبار الولايات المتحدة على إعادة تموضع أسطولها ليست نصرًا عسكريًا فحسب، بل تحوّلًا في موازين الردع الإقليمي؛ فالقوة البحرية التي وُلدت تحت الحصار أثبتت أنها قادرة على إعادة تعريف الأمن في البحر، لا كمنطقة نفوذ أمريكي، بل كساحة اشتباك مفتوحة لصالح قضايا الأمة وفي مقدمتها غزة.
العمليات البحرية الأخيرة.. إنذارات إضافية قرعت مسامع ترامب:
في نهاية الأسبوع الجاري، نفذت القوات البحرية اليمنية عملية نوعية استهدفت سفينة يونانية في خليج عدن، حتى أحرقتها وأغرقتها، في ضربة تعكس تجدّد الاتساع في خارطة الرد اليمني ضمن معادلة “حصار مقابل حصار”، وتأكيد عملي على أن خطوط الملاحة في البحرين الأحمر والعربي لم تعد ساحة مفتوحة أمام السفن المرتبطة بالعدوان أو الداعمة له.
وقبلها كانت القوات البحرية اليمنية قد استهدفت السفينة الصهيونية “سكارليت راي” شمالي البحر الأحمر، بعد أقل من شهرين على عمليات نوعية طالت السفينتين “ماجيك سيز” و”إترنيتي سي” اللتين غرقتا، وتمكنت قواتنا من ضربهما وإجلاء طاقمهما وسط استفراد يمني كامل بمجريات البحر الأحمر.
وبهذه العمليات – التي جرت في نطاق خاضع للرقابة العسكرية الأمريكية المباشرة، لكنه لم يعد خاضعًا لسيطرتها – وجّهت القوات المسلّحة اليمنية رسائل استراتيجية مزدوجة: فمن جهة أكدت تصاعد القدرات الهجومية اليمنية ومتطلبات العمليات في عمق البحار، رغم الاعتداءات المتكررة أمريكيًا وصهيونيًا وبريطانيًا، ومن جهة أخرى كشفت نهاية أكذوبة “الحماية البحرية” التي كانت تبرر بها واشنطن انتشار قطعها الحربية لفرض الهيمنة.
هذه المعطيات جعلت ترامب يُدلي بهذا النوع من التصريحات بعيدًا عن الاستعراض أو الغرور؛ فالقناعة باتت راسخة لدى كل المسؤولين العسكريين الأمريكيين بأن اليمن لم يعد مجرد طرف دفاعي، بل قوة بحرية إقليمية تمتلك زمام المبادرة وتفرض قواعد اشتباك جديدة تُحيّد قوة العدو مهما كان حجمها.
تصريحات ترامب تؤكد أنه قرأ إنذارًا يمنيًا على هيئة عمليات نوعية تشير إلى أن أي مغامرة أمريكية بحرية جديدة قد تجر واشنطن إلى خسائر يصعب احتواؤها.
ختامًا:لم يكن تصريح الرئيس الأمريكي سوى انعكاس لحقيقة ميدانية لم يعد ممكنًا إنكارها: أن زمن الهيمنة الأمريكية على البحار في المنطقة العربية قد ولّى، وأن اليمن – بصلابته العسكرية وبصيرته السياسية وموقفه الإيماني والإنساني مع فلسطين – أصبح اليوم رقمًا ثابتًا في معادلة الردع، وحارس البحر الأحمر الذي غيّر حسابات القوى الكبرى، وجعل من الحذر الأمريكي عنوانًا لمرحلة جديدة من الوعي الاستراتيجي في واشنطن، بعد أن كان محل تباهٍ بالهيمنة والسطوة على المنطقة والإقليم.