صمت المطبّعين أمام محرقة غزة: نهاية أُسطورة “الاعتدال” العربي
الصمود – بقلم/ أصيل علي البجلي
“الاعتدال العربي” اليوم لم يعد يمثل سياسةً حكيمةً أَو واقعيةً، بل أصبح مرادفاً للعجز والأنانية والارتهان.
في خضمّ محرقة غزة، حَيثُ تتهاوى تحت القصف أرواح الأطفال والنساء، ويُدنَسُ شرفُ الأُمَّــة تحت سمع وبصر العالم، يبرز مشهدٌ آخر لا يقلّ فظاعةً عن العدوان ذاته: الصمتُ المُطبق، بل والتواطؤ المُقنَّع، من قبل الأنظمة العربية التي باعت قضيتها واختارت طريق “التطبيع” و”الاعتدال” المزعوم.
هذا الصمتُ ليس مُجَـرّد خِذلانٍ سياسيٍّ عابرٍ أَو عجزٍ مرحليٍّ، بل هو شهادةُ وفاةٍ مدوّيةٌ لمشروعٍ لطالما سوّق لنفسه على أنه القناة الوحيدة لتحقيق “السلام الاقتصادي” و”الاستقرار الإقليمي” عبر بوابة التنازل عن الحقوق.
لقد قامت فلسفة “الاعتدال” الزائفة على أَسَاس مغلوطٍ مفاده أن التخلي عن القضية المركزية – قضية فلسطين – سيفتح أبواب الرخاء، وأن الاقتراب من العدوّ سيمنح هذه الأنظمة نفوذاً لحماية مصالحها الخَاصَّة. لكن أثبتت أَيَّـام العدوان والمجازر المفتوحة أن هذه الفلسفة ليست سوى سرابٍ سياسيٍّ ووهمٍ أمنيٍّ؛ ففي اللحظة التي احتاجت فيها غزة إلى أدنى درجات الضغط السياسي الإقليمي والدولي لوقف المذبحة، تلاشت تماماً أدوات “المطبعين”، وتحوّل نفوذُهم المزعوم إلى مُجَـرّد غطاءٍ إعلاميٍّ يستر عجزهم ويؤكّـد تبعيتهم الكاملة للمحور الأمريكي–الصهيوني.
إن المشهدَ يحاكي التحذير الإلهي من الركون إلى الظالمين، والذي ورد في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أولياء ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ (هود: 113). فكيف لمن ركن إلى كيانٍ قائمٍ على الظلم والعدوان والتشريد أن يجد لنفسه عِزّةً أَو ناصِراً أمام غضب الشعوب وفظاعة الجرائم؟ لقد كان الركون هنا ليس مُجَـرّد حيادٍ، بل هو تحالفٌ مُبطَّنٌ ضدّ إخوة الدين والدم، وتكريسٌ لمفهومٍ جديدٍ للردة السياسية.
إن “الاعتدال العربي” اليوم لم يعد يمثل سياسةً حكيمةً أَو واقعيةً، بل أصبح مرادفاً للعجز والأنانية والارتهان، وهو ما دفع الشعوب العربية إلى استعادة بوصلتها الأصيلة، لتثبت أن فلسطين ليست مُجَـرّد ملفٍ يُدار من الغرف المغلقة، بل هي عقيدةٌ متجذرةٌ في وجدان الأُمَّــة، لا تموت بالتنازلات ولا تُشترى بالمال. لقد جاءت عملية “(طوفان الأقصى)” وكل هذه التضحيات الجسيمة لتضع حداً فاصلاً بين مشروعين: مشروع المقاومة والثبات الذي يستمد قوته وعزته من قوله تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)، ومشروع التبعية والخذلان الذي لم ينتج سوى مزيدٍ من الدم الفلسطيني، وكشف عورة الأنظمة التي تحاول تزيين الباطل وتلبيس الحق بالباطل.
لقد سقطت أُسطورة “الاعتدال” إلى الأبد تحت أنقاض غزة، ولن يُكتب التاريخ القادم إلا بمداد المقاومة التي وحدت جبهات المنطقة وفضحت زيف التحالفات الهشة. إنها لحظة تاريخية فاصلة تؤكّـد أن القوة الحقيقية تكمن في الإرادَة الحرة والتمسُّك بالحق، لا في وهم الشراكة مع المعتدي.