الجسد العربي الناقص
الصمود||مقالات||أحلام الصوفي
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوًا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”
حديث نبوي عظيم، يُرسي مبدأً إنسانيًا وأخلاقيًا، ويعكس روح التضامن في أصفى معانيها. لكنه اليوم يبدو وكأنه يُتلى على أمة فقدت الإحساس، أو كأن الحديث يُقال عن أمة أخرى غير هذه التي تتفرج على غزة تُذبح منذُ اثنين وعشرون شهر، دون أن يتحرك منها طرف، أو ترتجف فيها شعرة.
غزة، هذا الجزء النابض من الجسد العربي، يتعرض لواحدة من أكثر المجازر وحشية، والعالم العربي الرسمي إمّا صامت، أو متواطئ، أو مشغول بتجميل عجزه بلغة “الاعتدال”. لا تحرّكهم دماء الأطفال، ولا صرخات الأمهات، ولا أنقاض البيوت. حتى “حمية الجاهلية” التي كانت تدفع القبائل لنصرة المستغيث، لم تعد حاضرة. فما بالك بالذين يدّعون الإسلام ولا يُحرّكهم حديث نبيّهم عن الجسد الواحد؟
لقد تحوّل الجسد العربي إلى جسد ناقص، بارد، فاقد لردّ الفعل. كأن غزة عضو غريب لا ينتمي إليه. أو كأن هذا الجسد قد تخلى عن ذاكرته، عن نخوته، عن كرامته.
فقد هذا الجسد ليس فقط الإحساس، بل فقد الرابط الذي كان يجمع أعضاءه؛ رابط الإيمان واللغة والتاريخ والمصير المشترك. تحوّل إلى شتات من الأنظمة المترهّلة، تحكمها الحسابات الضيقة، وتُقيّدها التحالفات المربكة، حتى أصبحت فلسطين – التي كانت في قلب كل عربي – مجرد ملف مؤجّل أو قضية مُربِكة لا يرغب أحد في إثارتها.
أين التضامن العربي الذي كنا نتغنى به في المدارس، ونحفظه في الكتب ؟ أين الغضب الذي كان يهزّ الشوارع حين تُمسّ كرامة الأمة؟ صار كل شيء باهتًا حتى الغضب أصبح “منسقًا”، وحتى التضامن تحوّل إلى بيانات خجولة ومواقف رمادية.
لكن وسط كل هذا السكون الرسمي، هناك شعوب ما زال نبضها حيًّا. هناك من يخرجون رغم القمع، من يرفعون الصوت رغم الحصار، من يكتبون، ويغضبون، ويتضامنون، رغم محاولات تجفيف الروح فيهم. الشعوب وحدها هي التي ما زالت تملك شيئًا من بقايا الجسد الحقيقي، وتحتفظ في ضميرها بالحديث النبوي الشريف الذي يتلوه البعض اليوم بقلوبٍ دامعة وضمائر يقظة.
غزة لا تنتظر منّة أو عطفًا، بل تنتظر أن يتذكّر هذا الجسد العربي أنه ما زال حيًّا إن أراد. تنتظر أن يعود إليه شيء من وعيه، من كرامته، من شعوره الطبيعي بالحرقة إذا جُرِح جزءٌ منه.
فالجسد العربي ليس ناقصًا في تركيبه، بل في تفاعله. والنقص اليوم ليس في الأطراف، بل في القلب حين يتوقف عن النبض.