بين باريس وصنعاء، ثورتان.. ومصير واحد
الصمود||مقال تحليلي||عبدالرحمن حسين العابد
قد لا يستوعب البعض حتى اليوم عظمة الحدث الذي وقع في اليمن متمثلاً بثورة 21 سبتمبر 2014.
قوة الدعاية السياسية والإعلامية التي وُجهت ضد هذه الثورة جعلت كثيرين يظنون أنها مجرد “انقلاب” أو مغامرة عابرة، لكن اسمحوا لي أن أقول بوضوح: هذه ثورة لا تقل شأناً عن الثورة الفرنسية عام 1789، مهما بدا للبعض في ذلك مبالغة. بل واسمحوا لي أن أنحاز بضمير مطمئن إلى ثورة 21 سبتمبر، وأعتبرها أكثر تقدماً في جانبها الأخلاقي، وأقرب إلى معايير التحرر الوطني الحقيقية، وسأذكر هنا بعض الجوانب التي تعزز وتؤكد هذا الموقف.
فرنسا الدماء.. ويمن العفو
الثورة الفرنسية لا تزال حتى اليوم توصف بأنها “أعظم ثورة في التاريخ الحديث”.
لكن الحقيقة أن هذه الثورة ارتبطت بالمقاصل وأطلق على الفترة التي تليها “عهد الرعب” الذي أودى بعشرات الآلاف، بينهم الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت مع عشرات الآلاف من مؤيدي نظامهم المخلوع.
بل وطالت الثورة دماء كثيرة من الثوار الفرنسيين في مقدمتهم روبسبير وعشرات الآلاف من الثوار الذين سالت دماءهم قبل أن تنجح الثورة بعد عقود طويلة وتُخلّد كمفخرة إنسانية.
أما ثورة 21 سبتمبر في اليمن، فقد كانت نقيض ذلك تماماً. سيطرة الثوار على صنعاء جاءت بمعارك محدودة وفي أيام قليلة، ولم تُنصب المشانق، بل أُُعلن عفو عام عن الخصوم السياسيين والعسكريين.
لم تُفتح المعتقلات على مصراعيها، بل فُتحت أبواب الحوار. ومع ذلك، وُصفت بأنها انقلاب! وهنا تظهر المفارقة: العالم يصفّق لثورة أغرقت بلدها في الدماء، ويشيطن ثورة أبدت قدراً عالياً من التسامح وضبط النفس.
التحرر من الوصاية
الفرنسيون ثاروا ضد الملكية المطلقة والإقطاع ليحرروا شعبهم من قبضة الأرستقراطية. أما اليمنيون في 21 سبتمبر فقد ثاروا ضد نظام مرتهن للخارج منذ عقود، نظام لم يعرف استقلالاً حقيقياً منذ ثورة 26 سبتمبر 1962.
الرياض وواشنطن ظلتا تتحكمان في القرار اليمني حتى في أبسط تفاصيله، من تعيين الرئيس إلى تشكيل الحكومة. وجاءت ثورة 21 سبتمبر لتقطع هذا الخيط وتعلن أن القرار أصبح يمنياً خالصاً.
من بروسيا إلى الخليج.. الحروب الخارجية ضد الثورة
لم تمر الثورة الفرنسية من دون عداوات خارجية، بل تحالفت أوروبا كلها تقريباً – بروسيا والنمسا ثم بريطانيا – لإسقاطها وإعادة آل بوربون. خاضت فرنسا “الحروب الثورية” لعقدين كاملين، لكنها خرجت منها أكثر قوة.
هذا السيناريو يتكرر في اليمن: منذ انطلاق ثورة 21 سبتمبر، شُن تحالف خارجي بقيادة السعودية والإمارات، مدعوماً من قوى غربية كبرى، بهدف وأد الثورة وإعادة الوصاية.
وكما فشلت أوروبا في القضاء على الثورة الفرنسية، فشل تحالف الخليج والغرب في إجهاض الثورة اليمنية رغم حرب شاملة استمرت لسنوات.
الخيانة الداخلية
التاريخ لا يكتبه الأبطال وحدهم، بل يسطر فيه الخونة صفحات سوداء.
في فرنسا، سلّم بعض القادة المدن والموانئ لبريطانيا العدوة.
وفي اليمن، تكررت الصورة حين سلّم بعض السياسيين والعسكريين الجزر والموانئ لدول التحالف.. في خيانة صريحة لمبادئ السيادة الوطنية. ومع ذلك، فإن هذه الطعنات لم تفلح في إخماد جذوة الثورة، بل عززت قناعة الشعب بأن معركته ليست ضد الخارج فقط، بل ضد شبكات التبعية في الداخل أيضاً.
الحنين للنظام السابق
في فرنسا، لم يستسلم أنصار النظام الملكي. أعادوا لويس الثامن عشر إلى الحكم بدعم خارجي، لكنه لم يصمد طويلاً ولاذ بالفرار.. عجلة التاريخ لم تتوقف عنده.
وفي اليمن اليوم، نسمع أصواتاً تطالب بعودة رموز النظام السابق أو عائلاته.
لكن الواقع الجديد الذي أفرزته ثورة 21 سبتمبر يجعل مثل هذه المشاريع أشبه بأحلام الماضي.
فالثورة غيّرت وعي الناس ورسخت مطلب الحرية والاستقلال الذي اصبح شعار ثورة 21 سبتمبر، ولا مجال للعودة إلى زمن الارتهان والوصاية.
الرواية الدولية ومعايير القوة
لماذا يُحتفى بالثورة الفرنسية ويُحاصر اليمن؟
الجواب بسيط:
لأن الثورة الفرنسية انسجمت مع المسار الأوروبي نحو ما أطلق عليه بعد ذلك الدولة الحديثة.
بينما ثورة 21 سبتمبر اصطدمت بمصالح القوى الكبرى في المنطقة.
العالم لم يكافئ فرنسا لأن ثورتها كانت عادلة أو سلمية، بل لأنها في النهاية أصبحت جزءاً من أوروبا الصاعدة.
واليوم لا يُهاجم اليمن لأنه ارتكب جرائم، بل لأنه قرر أن يخرج من بيت الطاعة الخليجي – الغربي.
التاريخ لا يرحم
كل الثورات العظمى في التاريخ وُوجهت بالتشكيك والتشهير في بداياتها.
الثورة الفرنسية وُصفت بالفوضى والدمار قبل أن تتحول إلى منارة. والثورة الأمريكية وُصفت بالتمرد، ثم أصبحت نموذجاً للتحرر.
واليوم، ثورة 21 سبتمبر تتعرض للوصم ذاته، لكنها تثبت عاماً بعد عام أنها ليست نزوة عابرة، بل تحول تاريخي سيغير وجه اليمن والمنطقة.
اسمحوا لي أن أكرر انحيازي:
ثورة 21 سبتمبر لا تقل أهمية عن الثورة الفرنسية، بل هي أكثر التزاماً بالأخلاق وأوضح في مطالبها بالتحرر والسيادة. وكما خلد التاريخ الثورة الفرنسية رغم دمويتها، سيخلد يوماً ثورة اليمن لأنها جمعت بين الإرادة الشعبية والصمود في وجه حرب كونية، ولأنها ببساطة ثورة رفضت الوصاية وأعلنت أن القرار اليمني من صنع اليمنيين وحدهم.
نقلاً عن موقع يمانيون