الصمود حتى النصر

أُمَّـة تصلي بلا قلب.. وقبلتها واشنطن

الصمود||مقالات||عبد القوي السباعي

يا سائلي عن حالِ غزةَ، إنّ من البيانِ لَمَا يُبكي، ومن الحروفِ لَمَا يُحاكِمُ أُمَّـةً نطقتْ بغيرِ لسانِها، وسجدتْ على غيرِ قِبلتِها!

أيّها القارئُ من وراءِ الزجاج، والمستدفئُ بأمان الجغرافيا، تعالَ أحدثْك عن غزةَ، حَيثُ لا لونَ للغروبِ إلا الدّم، ولا يَسكنُ في المهدِ إلا شهيدٌ مضى وآخر مؤجَّل معدم، ولا يُغنّي العصفورُ إلا مراثيَ اليتامى!

فيا وجعَ اللغة!.. لقد صار الصمتُ عقيدةً دوليةً، تُفتي بها واشنطن وتُصلي خلفها الأمم، تُعطي نتنياهو صَكَّ غفرانٍ ليرتكبَ الهولوكوست (المحرقة) على الهواء، تحت رعايةٍ أمميةٍ صمّاء، وغطاءٍ عربيٍّ بلا نخوةٍ ولا حياء.

أمريكا فيها تمثّلُ عمودَ خيمةِ الإبادة، تنصبُ الفخَّ، وتنسحبُ ساعةَ الانفجار، كما يفعل ويتكوف، ذاك الذي يُديرُ ماكينةَ الصمتِ الموجَّه، ويُوزّعُ الأكاذيبَ الدبلوماسيةَ على موائدِ الموتى، متجاهلًا أن غزةَ ليست ملفًا يُغلق، بل جرحٌ يُحرّضُ كُـلّ ضميرٍ حيٍّ على الثورة.

يا سامعون بلا سمع، ويا مبصرون بلا بصر: في غزةَ، لا تُطلَقُ رصاصاتُ الرحمة فقط، بل تُسقطُ صواريخُ الخيانة، وقنابل الإيغال.. الأمُّ تُطعِمُ صغيرَها دموعَها، وتُرضِعُهُ ماءَ الأرض المالح، ثم تهمسُ له: “نَمْ، فليسَ لنا في هذا العالمِ مفرٌّ سوى الحلم”.

بطونٌ منتفخةٌ إلى الداخل كأنها طبولُ القيامة وقد بَقُرَت، وأجساد هزيلةٌ كأنها قصائدُ مجاعة، أطفال يرتجفونَ كأوراق خريفٍ فلسطينيٍّ لا ينتهي، ورصاصُ الاحتلال يُصوِّبُ نحو الأملِ مباشرة؛ فمن يُغيثُ من؟!

مراكزُ الغذاءِ تحوّلتْ إلى فِخاخٍ معلّقة، كُـلُّ من سارَ نحو الخبزِ قُتل، كُـلّ من رَكَضَ نحو الحليبِ استُهدف، ولم يبقَ من الطوابيرِ سوى الشهداءِ مصطفّينَ كأنهم في صلاةِ وداعٍ لا إمامَ لها.

سقطتِ الأقنعةُ، وتعرّى الموقف، أنظمة تتوسّلُ الصمتَ، وتعبُدُ السيادةَ الزائفة، تصلّي، لكن نحو العرشِ الصهيوني لا نحوَ العدل الإلهي، وتبرّر ذبحَ الأطفال بـ”أمنِ المنطقة”، وكأن غزةَ ليست جزءًا من ذاكرةِ الأُمَّــة، بل مزرعةُ تجاربٍ لمشاريعِ الاستعمار الجديد.

هنا أُمَّـة تصلي بلا قلب.. ومحرابُها في واشنطن؛ فكم من حاجٍّ يدورُ حول البيتِ الحرامِ وقلبُهُ مُدَجَّنٌ في دهاليزِ البيتِ الأبيض؟

وكم من إمامٍ يخطبُ في الناسِ عن الفضائل، ويصمتُ عن الجريمةِ الموصوفة؟

لقد شبعتم من الدعاء، وجاعَت غزةُ من الصمتِ الذي يسمنُ قاتلَها.

يا من تبحثون عن النخوةَ، تعالوا إلى اليمن، حَيثُ لا يُصنَعُ الصبرُ فقط، بل تُخيطُ البنادقُ قُبَّعاتِ الحرية، وحيثُ الأطفال يحفظون أسماء شهداءِ غزة أكثر من أسماء ألعابِهم.

صنعاء، تَشهقُ بالنفير، وتَحملُ فلسطينَ على أكفِّ البنادق، لا تسألُ عن مسافة، ولا تنتظرُ تأشيرة؛ لأَنَّ القدسَ في عقيدتها أقربُ من العواصمِ المتورطةِ بالنفاق.

يا أُمَّـة المليارَين أَو تزيد، أما آنَ لقلوبِكم أن تُبعَث؟

أما آنَ لمآذنِكم أن تُكبِّرَ للحقِّ لا للسلطان؟

أما آنَ لأقلامِكم أن تتوضأَ بالحقيقةِ وتُصلي على شهداءِ الإبادة والمجاعةِ في غزة؟

هنا غزة.. في كُـلّ شهيدٍ يُلَفُّ ببطانيةٍ مهترئة، وصمةُ عارٍ على جبينِ الإنسانية.

في كُـلّ أُمِّ ترضعُ طفلَها من لا شيء، صرخةٌ في وجهِ كُـلّ مؤتمرٍ دوليٍّ مخدَّر.

وفي كُـلّ رصاصةٍ تُطلَقُ على رغيفٍ الخبز، تبرئةٌ علنيةٌ للقَتَلةِ باسم القانون.

فيا من تسألون: من أين يبدأُ الدفاعُ عن غزة؟

ابدأوه من قلوبكم.. حرّكوها، علّها تُنجِبُ موقفًا، واكسروا أقلامَ الصمت؛ علّها تكتبُ حقًّا، واصرخوا، فَــإنَّ في الصرخةِ في وجه المستكبرين حياة. واللهُ يسمعُ أنينَ الجائعين.. ولو ضجّت واشنطن والرياض وأبو ظبي بالموسيقى في مواسم الترفيه.