الصمود حتى النصر

اليمن بين خيارات التصعيد والنداء الإنساني لفلسطين.. قراءة في خطاب السيد القائد

الصمود||تقرير||جميل القشم

في توقيت استثنائي من عمر المجازر الصهيونية في غزة، جاءت كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، لتفتح جبهة موازية من الوعي والمسؤولية، حيث امتزج البعد العسكري بالنداء الإنساني، والتكليف الإيماني بإرادة الشعوب، ليضع اليمن مرة أخرى في قلب المعركة العالمية من أجل فلسطين.

خطاب قائد الثورة يجسد مرحلة فارقة من عمر العدوان الصهيوني على غزة، ليحمل في طياته قراءة شاملة للمأساة، ويجدد تموضع اليمن في قلب معركة التحرر الكبرى، بين تصعيد عسكري متواصل، ونداء إنساني مفتوح تتعالى فيه صرخات النصرة من أرض الإيمان إلى قلب فلسطين.

تجلى الخطاب كوثيقة استراتيجية مزدوجة الأبعاد: من جهة، تأكيد الاستعداد لتصعيد عسكري إضافي ضد الكيان الصهيوني، ومن جهة أخرى، دعوة متجددة للأنظمة المجاورة بفتح المنافذ لعبور اليمنيين نحو ميادين النصرة، في مشهد يعكس حضورا استثنائيا للضمير الجمعي اليمني.

وضع قائد الثورة معادلة واضحة في كلمته مفادها بأن التنكيل بالعدو لا يكون بالتصريحات ولا بالتنديدات، بل بتطوير مستمر للقدرات، وفتح المسارات أمام الأمة لتأخذ مكانها في المعركة، محذرا في الوقت ذاته من الانجرار وراء دعاوى السلام الكاذب التي تروج لها الأنظمة المتصهينة.

في خط مواز، سلكت الكلمة مسار التوثيق الأخلاقي لمأساة غزة، حيث وصف قائد الثورة الأسبوع الأخير بأنه الأكثر ظلمة في سجل الإبادة الجماعية، وسرد بالأرقام والوقائع واقع الأطفال والنساء، مشيرا إلى أن الكيان الصهيوني يحول القتل إلى مادة “تسلية” وينشرها في فيديوهات فجة تُظهر سقوط كل القيم الإنسانية.

توقف السيد القائد عند الجرائم المروعة التي طالت أطفال غزة ونسائها، معرجا على منع الغذاء وحليب الرضع، والتجويع المتعمد، ومشاهد الإبادة الجماعية، التي لم تعد مجازر موثقة فحسب، بل مادة استعراض يتباهى بها كيان العدو، في استعراض فج لانهيار كل القيم الأخلاقية والدولية.

وإزاء هذا السقوط الأخلاقي العالمي، لم يتأخر الموقف اليمني، بل جاء على لسان قائد الثورة معلنا دراسة خيارات تصعيدية إضافية، وتطويرا مستمرا للقدرات العسكرية، لا لردع العدو فقط، بل لتثبيت معادلة جديدة تقلب موازين الضغط.

لم تكن المعاناة الموصوفة غاية الخطاب، بل تمهيدا لصياغة موقف عملي بأن الصمت العربي لم يعد مجرد عجز، بل خيانة موثقة، والسكوت عن جرائم التجويع والإبادة صار مشاركة غير مباشرة فيها، في حين أن أصوات اليمنيين في المسيرات تفضح هذا التواطؤ وتقدّم بديلا حيا.

وعبر قائد الثورة عن فشل الحملات الدعائية والإعلامية التي حاولت النيل من صلابة الموقف اليمني، مؤكدا أن صمود الشعب أمام العدوان والحصار والدعاية الغربية هو دليل على رسوخ الموقف الإيماني المناصر لفلسطين رغم التحديات.

ومن محور غزة انتقل القائد إلى نقد أداء الأنظمة العربية، معتبرا أن تجميد المواقف، وتكريس ثقافة الاستسلام، والمضي في التطبيع، كلها تصب في خدمة العدو، بل تشكل خط الدفاع الأول له في قلب الأمة.

وأشار القائد إلى مفارقة عجيبة تتمثل بأنظمة تظهر التعاطف إعلاميا بينما تمد العدو بالغذاء والوقود، وتستمر في التبادل التجاري معه، متسائلا: بأي معيار يقاس التعاطف، وبأي دين يفهم النفاق؟

وحين يغدو المنع من التظاهر جريمة موازية للقتل، وينقلب المنبر الديني إلى أداة تكميم، كان لا بد من وضع النقاط على الحروف، فتوجه القائد بالنقد المباشر للأزهر الشريف، ولمواقف عدد من الأنظمة الإسلامية والعربية، التي تقمع كل صوت حر وتسكت كل دعاء لفلسطين.

وأشاد قائد الثورة بالمواقف القليلة المشرفة التي صدرت عن مفتي سلطنة عمان ومفتي ليبيا، معتبرا إياها بصيص أمل في ليل الخذلان الطويل، بينما عبر عن الحزن العميق تجاه حالة السكوت المخزية لرموز دينية اعتادت الافتاء بالجهاد في ميادين الفتنة، وخرست أمام مجازر غزة.

أما على مستوى الجبهة اليمنية، فقد كشف الخطاب عن حجم العمليات العسكرية النوعية التي تم تنفيذها خلال الفترة الماضية، مؤكدا أن اليمن دخل المعركة من موقع الفاعل، وليس المتضامن، وأن الحظر البحري على كيان العدو هو ورقة ضغط استراتيجية لن تتوقف.

حيث قدم الخطاب حصيلة دقيقة للعمليات العسكرية ضد العدو الإسرائيلي، مشيرا إلى تنفيذ أكثر من 1600 عملية، منها صواريخ فرط صوتية وطائرات مسيرة، ما يؤكد جدية الإسناد اليمني واستمراره رغم التصعيد الأمريكي والبريطاني.

اللافت في الكلمة، تكرار الإشارة إلى أن اليمن لن يكتفي برد الفعل، بل يبحث عن خيارات تصعيدية جديدة، ما يوحي بأن المرحلة المقبلة قد تحمل مفاجآت استراتيجية في البحر الأحمر وخارجه، كجزء من معركة كسر الحصار ودعم غزة.

حملت الكلمة إشارات دقيقة إلى أن ما يحدث في غزة ليس أزمة محلية، بل لحظة اختبار عالمي، يتحدد فيها مصير القيم والضمائر، وتتعرى فيها المؤسسات الدولية، وتسقط فيها شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، أمام عيون الجائعين والنازحين.

لم ينسَ القائد في خطابه التنويه ببطولات المجاهدين في غزة، وتكامل الجبهة المقاومة، من كتائب القسام إلى سرايا القدس، وما يرافقها من تكافل ميداني وتعاون نوعي، أربك العدو، وعمّق أزمته النفسية والميدانية.

وبرؤية استراتيجية، استعرض الدور العالمي للحركة الصهيونية، باعتبارها أخطر مشروع استعباد عالمي، لا يستهدف فلسطين فقط، بل يسعى لإذلال الأمة، ونهب ثرواتها، وإخضاع شعوبها عبر مشاريع إبادة ناعمة وخشنة، يغلفها الغرب بعنوان “السلام”.

التحذير من مسار “نزع السلاح” شكل ركيزة أساسية في الخطاب، إذ اعتبر قائد الثورة أن محاولة تجريد المقاومة في فلسطين ولبنان من أسلحتها هو خيانة مباشرة، ومنتهى السذاجة، بل مشاركة في إبادة الشعوب.

وأكد أن نزع سلاح حزب الله أو حركة حماس هو مطلب صهيوني أمريكي ينفذه بعض العرب للأسف، مبينا أن هذا السلاح هو الضمانة الوحيدة لبقاء تلك الشعوب حرة وغير ممزقة كما حدث في صبرا وشاتيلا.

ولم يكن ختام الخطاب إلا عودة إلى جوهر الفعل الشعبي، بدعوة اليمنيين إلى الخروج المليوني الحاشد، مذكرا بأن التظاهرات المتكررة ليست مجرد فعل رمزي، بل جهاد في سبيل الله، وتوثيق حيّ لوفاء الشعب اليمني.

في قراءة أعمق، عبر الخطاب عن إدراك قائد الثورة بأن اليمن في قلب معادلة عالمية متحولة، حيث انكشاف الوجه الحقيقي للصهيونية والتحالف الغربي يجعل من اللحظة فرصة استراتيجية لتحشيد الأمة، لو أدركت الأمة هذه اللحظة.

وبلغة سياسية مركبة، قال قائد الثورة ما لم يقله غيره: “إن من يقمع المسيرات في العواصم العربية، ويمنع الدعاء لفلسطين في المساجد، هو مجرد تابع للأمريكي والصهيوني، يؤدي الوظيفة الأمنية ذاتها بلغة عربية”.

ولأن السياق لا يحتمل المواربة، أعلن السيد القائد أن “السلام” الذي يُسوق اليوم ليس إلا استسلاما مغلفا وأن مشروع التصفية الشاملة للقضية الفلسطينية يسير بخطى متسارعة على يد الأنظمة المطبّعة التي باتت تؤدي دور الحارس للعدو في الجغرافيا العربية.

ووصف الحالة السائدة بأنها أخطر من مجرد تطبيع، بل تحول كامل في وظيفة الأنظمة العربية إلى حراس مصالح العدو، وتثبيط الأمة عن أي فعل نضالي، حتى الرمزي منه، في مشهد خيانة جماعية موثقة.

وهكذا ختم قائد الثورة كلمته برسالة حاسمة: واحدة للعدو الصهيوني بأن اليمن قادم بتصعيد جديد، وأخرى للأمة بأن الفرصة لا تزال قائمة للالتحاق بجبهة الكرامة، فهذا هو وقت الجهاد أكثر من أي وقت مضى” كما قال، والساكت شريك، والمتخاذل خائن، واللحظة لا تحتمل الحياد.

إنه خطاب اللحظة المفصلية، التي يلتقي فيها الدم بالواجب، وتتوحد فيها الجبهات حول القدس، لا كعنوان سياسي، بل كقضية وجود، تختصر فيها معركة الأمة مع أعدائها، ويُعاد رسم موقع اليمن فيها، ثابتا، حاضرا، ومبادرا.