قطاع غزة تحت مقصلة الحصار والتجويع ونيران القصف والإبادة
الصمود||تقرير||
في زمنٍ تخلّى فيه العالم عن أحد أهم اختباراته الأخلاقية، تقف غزة اليوم شاهدةً على كارثةٍ إنسانية فريدة، صرخات ألم مكلومة، وأطفال يتضورون تحت سطوة الجوع، ومرضى يُتركون ينزفون حتى الموت.
ما يحدث في غزة؛ إبادة من نوع آخر، فما بين نيران القتل والقصف والدمار، وتحت مقصلة التجويع وأنين البطون وتفشي المرض، تعلو مأساة تتجاوز حدود الحصار والحرب، لتصل إلى جوهر ما يعنيه أن تُباد الحياة أمام أعين العالم، موثقة على الهواء مباشرةً.
منذ السابع من أكتوبر 2023م، يعيش سكان قطاع غزة واحدة من أكثر جرائم الإبادة الجماعية بشاعة على مر العصور، فالحصار وسياسة العزل الجغرافي الصهيوني، أصبح أداة فتاكة لتفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل، باستخدام سلاح التجويع، والترويع، والحرمان من أبسط الحقوق الحياتية.
تقول الأرقام الكثير الرسمية والأممية: إن “أكثر من 53339 شهيدًا، وأكثر من 121034 جريحًا، منهم استشهاد 144 فلسطينيًّا جراء القصف الإسرائيلي على شمال ووسط وجنوب قطاع غزة منذ فجر اليوم الأحد”، غير أن خلف هذه الإحصاءات وجوهٌ فقدت أسماءها في ركام المنازل، وأحشاءٌ تئن بصمتٍ في طابور انتظار المساعدات الممنوعة، وأمهاتٌ يحرسن أبناءهن من الموت بأذرعٍ واهنة، وجوعٍ أقوى من الحنان.
في غزة، بعد أن كانت الأمومة رمزًا للعطاء، أصبحت عبئًا ثقيلًا لا يحتمل، فقد تحوّل حضن الأم إلى مقبرةٍ صامتة، وأصبحت دموعها غذاء الروح لطفلٍ لا يجد حليبًا، ولا حتى دواء.
إنها لوحة مأساوية تتكرر يوميًا، أمٌ تحتضن طفلها المتضور جوعًا، تبكي في طابور الإغاثة، وتعود إلى بيتٍ لا يوجد فيه الطحين والأرز والماء النظيف، ولا حتى شمعة تستضيء بها داخل خيمتها القماشية المهترئة.
الأمومة في غزة تحوّلت إلى صمودٍ مشلول، أمام سلاحٍ لا صوت له؛ إلا “المجاعة”، فما يجري فيها هو قرارٌ صهيوني صريح بالتجويع، بضوء أمريكي أخضر، أكدته تقارير حقوقية وشهادات مسؤولي المجتمع الدولي.
منذ شهر مارس الماضي، شدد الاحتلال الإسرائيلي حصاره بإغلاق المعابر ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية، وأخرج المخابز عن الخدمة بعد نفاد الوقود، وأغلق مطابخ الإغاثة “التكايا الخيرية”.
الأسواق فارغة، والمواد المتوفرة تُباع بأسعارٍ خيالية، لا يستطيع معظم السكان تحمّلها، وفي مشهدٍ يذكّر بالمجاعات التاريخية وقصص الأفلام الخيالية، بات الأطفال يبحثون عن طعامٍ بين الأنقاض.
المأساة لا تتوقف عند الجوع، بل تتعداه إلى القتل المباشر لمن ينتظر لقمة عيش أو جرعة دواء، تجمعات المساعدات باتت هدفًا عسكريًا مشروعًا للاحتلال.
المصابون لا يجدون من يسعفهم، والجرحى يُقصفون في أسرتهم، وحتى المستشفيات، لم تنجُ من وحشية القصف، وقد خرج معظمها عن الخدمة بفعل الاستهداف المتعمّد، ومنع إدخال الوفود الطبية والإمدادات الحيوية.
في قطاع غزة المنكوب قرعت الأرقام المهولة جرس الإنذار العالمي، “57 طفلًا توفوا جوعًا، في جريمةٍ مكتملة الأركان، وأكثر من 65 ألف طفل مهددون بالموت نتيجة سوء التغذية، وسط استمرار المجازر، وأكثر من 184 ألف شهيد وجريح منذ بداية العدوان وجريمة الإبادة، والأعداد في تصاعد.
كل ذلك يجري على مرأى العالم، وتواطؤ مكشوف من دولٍ كبرى، كما أقر السيناتور الأمريكي “كريس فان هولن”، حين وصف حكومته بأنها “متواطئة في الانتهاك الصارخ للقانون الدولي”.
وفيما تتأرجح صرخات خجولة من ضمير عالمي، اخرها قول رئيس المجلس الأوروبي “أنطونيو كوستا” الذي لم يُخفِ صدمته من حجم الكارثة: إن “ما يحدث في غزة مأساة إنسانية”، مطالبًا برفع الحصار فورًا وضمان وصول المساعدات.
لكن تلك التصريحات، رغم أهميتها الرمزية، لم تغيّر الواقع شيئًا، فالحصار ما زال قائمًا، والمجازر مستمرة، والجوع يتوحش، والجرح المفتوح في غزة يستنهض ضمير العالم.
غزة اليوم باتت ميزان أخلاقي يُختبر فيه صدق البشرية، فالجوع فيها ليس نقصًا في الغذاء، بل فائضًا في الوحشية، والأطفال الذين يموتون جوعًا هم ضحايا صمتٍ دولي مريب، وتواطؤ أمريكي مفضوح.
الأمهات اللواتي يحتضنّ أبناءهن حتى آخر رمق، لا يطلبن سوى القليل، أن تُفتح المعابر، أن تدخل المساعدات، أن تتوقف آلة القتل والإبادة الصهيونية، وأن يُمنح أطفالهن حق البقاء، لكن، وحتى إشعارٍ آخر، سيبقى الجوع في غزة شاهدًا على زمنٍ خان فيه العالم ضميره.