السلامُ المرعبُ لواشنطن
الصمود – بقلم/ د. ناصر البداي
في السياسة كما في علم النفس، هناك من لا يحتمل فكرة الشفاء، لأنّ مرض الآخرين هو مصدر قوّته، والولايات المتحدة نموذجٌ صارخ لهذا النمط: دولةٌ تتوجّس من أيّ سلامٍ حقيقي، وتخاف أن تنطفئ الحروب التي تعيش منها، فما يزعج واشنطن من اقتراب اتفاقٍ بين صنعاء والرياض ليس السلام ذاته، بل فقدان ورقة ضغطٍ استراتيجية، فكلّ محاولةٍ للتقارب تُقابَل بوجهٍ جديدٍ من “الحرص الدبلوماسي”، كأنّ الاضطراب وظيفةٌ وليس حالةً طارئة.
حين تتحدث الإدارة الأمريكية عن “القلق من مسار الاتفاق”، فهي تعبّر عن توترٍ استثماري لا قلقٍ إنساني، فاليمن المستقر لا يحتاج وسطاءَ ولا قواعدَ عسكرية، واليمن القوي يعني شرقًا أوسطَ أقلَّ ابتزازًا وأكثر وعيًا بمصالحه، وهذه في ميزان السياسة الأمريكية جريمةٌ لا تُغتفر.
من المفارقات المضحكة أن واشنطن التي ترفع شعارات “حقوق الإنسان” و”حرية الشعوب”، تغضّ الطرف عن المجازر في غزة وتزوّد القاتل بالذخيرة تحت شعار “الدفاع عن النفس”، وهذه ازدواجيةٌ في المعايير، ومرضٌ مزمنٌ في الضمير السياسي الغربي: التبرير باسم القيم.
اليمن، حضارةُ سبعة آلاف عام، لا يحتاج دروسًا في “الإصلاح السياسي” من دولةٍ لم تتقن سوى فنّ صناعة الأزمات، ويكفي النظر إلى خرائط الخراب من العراق إلى ليبيا إلى أفغانستان لنعرف أن ما يُسمّى بـ “المبادرات الأمريكية” هو الاسم الآخر للهدم البطيء.
اليوم، ترفع أمريكا وكيان العدو الإسرائيلي، مستعينةً بأدواتها الإقليمية، رايةَ التهديد بالحرب.. مرحبًا بهم: أهلًا وسهلًا، تفضلوا، تشفَوا، فكلّ تهديدٍ يزيد تصميم اليمنيين على الصمود والبحث عن سلامٍ يُبنى من الداخل لا يُفرَض من الخارج.
روما في آخر أيامها كانت تفتعل الحروب لتُثبت أنّها ما زالت قوية، حتى انهارت من الداخل. ويبدو أنّ واشنطن تسير في الطريق نفسه، فكلّما اقترب السلام شعرت بالخوف من فقدان مبرّر وجودها كقوةٍ عظمى، لكنّ التاريخ له منطقه: الإمبراطوريات التي تتغذّى على الضعف تضعف حين يشتدّ وعي الشعوب، واليمن الذي واجه الحصار والجوع والحرب بدأ يُدرِك أن قوته في وحدته، لا في إذنٍ من واشنطن ولا في رضى السفير.
سلامُ اليمن لن يُصاغ في دهاليز البيت الأبيض، بل في إرادة أبنائه وحقّهم المشروع بأن يعيشوا بكرامةٍ على أرضٍ حرة، بعيدًا عن وصايةِ من يخافون من انتهاء الحرب لأنهم لا يعرفون كيف يعيشون بدونها.
باحث في علم النفس الاجتماعي – جامعة صنعاء