الصمود حتى النصر

قمة شرم الشيخ.. من تجاهُل المأساة إلى تبييض الجريمة

الصمود – بقلم/ محمد الفرح

المشهدُ لم يكن مُجَـرّد لقطةٍ عابرة، بل صورةٌ مكثّـفة لواقع السياسة في عالمٍ يميل نحو الأقوى لا الأجدر، ويُكرَّم فيه المعتدي بينما يُترَكُ الضحية وحيدًا في العراء.

منذ الأمس وأنا أتذكّرُ مشهدَ قمة شرم الشيخ، ولم أستطع فهمَ واستيعابَ ما جرى فيها؛ وربما الحاضرون لا يعلمون سببَ مجيئهم، كانت غريبة إلى حَــدٍّ يصعُبُ تفسيرُه.

بدت وكأنها مشهدٌ مقتطَعٌ من مسرحية “الزعيم” لعادل إمام، حَيثُ تتداخل المجاملات الزائفة مع المواقف الهزلية في إطار يُفترض أنه جادٌّ ورسمي.

الأغرب هو وقوفُ ترامب بمفرده، بينما يتوالى القادةُ للسلام عليه واحدًا تلو الآخر، مع أنه ضيفٌ مثلُ سائر الحضور.

في المقابل، بدا المضيف الرسمي في حالةٍ من التواضع المفرط حَــدَّ الارتباك، تاركًا الحضور الأمريكي ليطغى على المشهد.

ظهر المجرم ترامب يوزّع الابتسامات والمديح على الحاضرين، ويتلو أسماءهم من ورقة، ويسخر من بعض الزعماء بأُسلُـوب يجمع بين المزاح والتعالي.

أُسلُـوب ترامب الاستعراضي والشخصي كسر القواعد المتعارف عليها؛ مما أربك الحضور وفرض إسهابه وثرثرته على الحدث.

أما مديحُه المتكرّر لعائلته ووزرائه في كلماته فيعكسُ طبيعتَه التي تميل إلى الاستعراض الذاتي، وكأنه يعيشُ في حملةٍ انتخابيةٍ دائمة حتى وهو في مؤتمرات القمم.

لكن ما هو أخطرُ من المظهر البروتوكولي هو ما غاب عن القمة من مضمونٍ مهمٍّ للغاية.

فقد غاب الحديث الجاد عن إعمار غزة وضرورة التعجيل به، باستثناء كلماتٍ مقتضبة من الرئيس المصري.

كما غاب النقاش حول المأساة الإنسانية الكبرى التي عاشها أبناء غزة، وهي مأساة لن تزول آثارها في عشرات السنين.

لم يُطرح أَيْـضًا مِلفُّ الأسرى الفلسطينيين المتبقين في سجون العدوّ، والذين كانوا أحد أبرز أسباب انفجار السابع من أُكتوبر، ولم يُناقش موقعُهم في أية تسويةٍ قادمة رغم أهميته المحورية.

والأسوأ من ذلك هو عودة الحديث عن (اتّفاقيات أبراهام) وتنميق تجربة التطبيع والتسويق لها، وكأن ما جرى في غزة لم يكن جريمةَ إبادة جماعيةٍ لم تجفّ دماءُ شهدائها بعد، ولم يُنتشلوا من تحت الأنقاض.

فإعادةُ تفعيل تلك الاتّفاقيات بعد كُـلّ ما حدث لا تعني سوى طمس جرائم العدوّ الإسرائيلي وشرعنتها، وتبييض الجريمة، وتجميل الفعل الوحشي، وتحويل صفحة الدم إلى وثيقة “سلام” يُكافأ فيها المجرم بدل أن يُحاسَب.

بهذا الشكل، خرجت القمة -في نظر كثيرين- عن طابعها الرسمي، لتبدو أقرب إلى استعراض سياسيٍّ منها إلى لقاءٍ دوليٍّ جاد.

غير أن ما وراء هذا المشهد أعمق من مُجَـرّد خللٍ في البروتوكول؛ إنه اختلال ميزان العلاقات الدولية في المنطقة، حَيثُ باتت دول منطقتنا تتعامل مع أمريكا من موقع التبعية لا الندية.

أما الحضور العربي في مثل هذه المحافل فقد تحوّل إلى دورٍ رمزيٍّ لا فاعل، بينما تُدار خيوط اللعبة من (إسرائيل)، في تداخلٍ بين النفوذ السياسي والاستعراض الإعلامي.

وفي النهاية، لم يكن مشهد شرم الشيخ مُجَـرّد لقطةٍ عابرة، بل صورةٌ مكثّـفة لواقع السياسة في عالمٍ يميل فيه الضوء نحو الأقوى لا نحو الأجدر، ويُكرَّم فيه المعتدي بينما يُترك الضحية وحيدًا في العراء.