الصمود حتى النصر

7 أكتوبر والوعي العربي الهجين

الصمود – بقلم/ محمد العلوي 

لم يعد المشغل الاستعماري التقليدي عبر استلاب العقل الجمعي العربي في الفضاء الناعم، هو الأداة الفاعلة، بل تحول إلى “صناعة وعي هجين” تنتجه آلات إعلامية جيوسياسية عربية تغلف المشروع الاستعماري بلغة “الشراكة الاستراتيجية” و”الدبلوماسية الإنسانية”، وتنفق عليه المليارات من الدولارات.

حقيقة لا يستطيع انكارها أحد، بأن العقل العربي أصبح أسير نظرية المعرفة المستوردة التي تعيد إنتاج نفسها عبر ما يمكن تسميته الاستشراق الإعلامي الجديد، ووفق ما يطرح على أنه سلام أمريكي بالمنطقة، هو في جوهره إعادة إنتاج منهجية للتبعية عبر تحويل القضية المركزية من تحرير الأراضي العربية الفلسطينية إلى ملف إنساني، قابل للإدارة التقنية، والعمل على تفكيك المقاومة، وجعلها أعمال إرهابية، في حين يتم تقديم الجرائم الإرهابية ومجازر الإبادة الوحشية للاحتلال الصهيوني باعتبارها، “حق مشروع للدفاع عن النفس”، وفق السلام الأمريكي الذي لم يستوعبه العرب منذ بداية التواجد الصهيوني بالأراضي العربية الفلسطينية.

إن ما يسمى هندسة الخطاب الأمريكي الصهيوني، وتقديمه عبر ما يعتقدون بأنهم النخبة السياسية العربية المصطنعة التي هي اشبه بأطفال الأنابيب من انتاج المراكز البحثية الغربية، لتعمل وتروج ما يملى عليها من المصطلحات الناعمة بهدف تكريس وتغليف الرعي العربي بالقشور وفق ثقافة التدجين والانبطاح للمشروع الاستعماري الذي تقوده الماسونية الصهيونية بأدوات ووسائل حديثة تسيطر على الفكر والعقل العربي لتجعل منه أداة تعمل بطريقة مباشرة لتحقيق أهدافها بالمنطقة.

لذلك يظهر علينا عبر مختلف أدوات الماسونية الصهيونية الناعمة من وسائل الإعلام العربية الشهيرة، مجموعة محللين محليين يتم تقديمهم كنشطاء ومهتمين تدريجيا ليكونوا فيما بعد وكلاء لترسيخ ثقافة الهيمنة المنمقة ببعض المصطلحات التي تخاطب القطيع، لإنتاج ما يعرف بـ “المثقف العضوي للنظام العالمي الجديد”، الذي يقوم بتنفيذ واضفاء الشرعية على المصطلحات المستوردة لتصبح مقبولة بالشارع العربي، هي بالأساس تنفذ ما يعرف بـ “صفقة القرن، عملية السلام، حل الدولتين”، وصولا لحملة الاعتراف بالدولة الفلسطينية دون تحرير مترا واحدا من الأراضي المحتلة، عبر تطبيع اللامفكر فيه بتحويل التناقض الجوهري إلى اشبه بالخلاف الإداري الافتراضي.

وبالتالي الأخطر على الوعي العربي الواسع هو التسويق للمعلومات السطحية وفق التوجه الأمريكي، دون تناول جذور القضية في الصراع العربي الإسرائيلي، ليس جهلا من ما يسموا انفسهم “محللين”، بل هو منهجا معرفي مقصود يقوم على أساس الاختزال التاريخي للحقائق وكأنها قضية نزاع على عقار، والعمل على تحويل الحقوق إلى “مطالب تفاوضية”، وفق مفهوم معقد تستخدم فيها القوة الاستعمارية التغييرات الديموغرافية السكانية كأداة لترسيخ هيمنتها وتحقيق أهدافها وفق مصطلح التعايش بين صاحب الأرض والمحتل الذي يقوم الأخير بتغيير الهوية المكانية ومحو المعالم الثقافية والتاريخية للسكان الأصليين، تكون من نتائجها تهجيرهم من اراضيهم وتفتيت الهوية الثقافية والذاكرة الجماعية، لخلق وقائع جديدة يصعب عكسها بمرور الوقت وتحويل الصراع من سياسي إلى وجودي.

إن الترويج لثقافة تسطيح العقل العربي، تجعل من عملية إنهاء الاحتلال أكثر تعقيدا، لأنها لا تتعلق فقط بالانسحاب السياسي والعسكري من الأراضي المحتلة، بل بتراث ديموغرافي وثقافي طويل الأمد يستمر في التأثير إلى مالا نهاية، لتبدو المعركة الحقيقية الراهنة ذات الأولوية للعرب هي معركة تحرير العقل من خلال، تفكيك خطاب القوة الأمريكية التي تقدم نفسها كـ”وسيط نزيه”.

بينما تكشف الايديولوجيا الكامنة وراء “اللغة المحايدة”، مدى ايمان العقيدة الأمريكية المطلق بأهمية حماية الكيان الصهيوني، وأنه لا وجود لأمريكا دون أمن “اسرائيل”، وهو ما يجب علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى كعرب مقاومة الاستعمار المعرفي الذي سيطر على الشعوب العربية والإسلامية دون أن تحرك ساكن حيال 64 ألف شهيد جلهم من الاطفال والنساء في غزة منذ طوفان الاقصى في 7 أكتوبر 2023م.

هكذا اصبح السلام الأمريكي، ليس مجرد سياسة ابتزاز للأنظمة العربية، بل نسق هيمني متكامل، يبدأ باحتلال العقل قبل الأرض، وينتهي بإنتاج العقل العربي “التابع” الذي يشارك في تبرير هيمنة مستلبه، والتطبيل لها وفق رؤيته التي ظل يرويها ويسوق لها وفق التوجه الصهيوني دون حياء أو خجل.