الصمود حتى النصر

تعز بين مشروعي الأحمر وصالح

الصمود//تحليل// أنس القاضي

تمهيد:

يعيش حزب الإصلاح اليوم واحدة من أعقد مراحله منذ تأسيسه قبل خمسة وثلاثين عاماً، وهي معضلة مركّبة ذات طابع تنظيمي وسياسي في آن واحد. فمن جهة، يعاني الحزب من تآكل نفوذه التقليدي نتيجة فقدان مساحات واسعة من الحضور في الجنوب وتراجع قوّته في الشمال، مقابل تمدد منافسين جدد مثل المدعو “طارق صالح” و”المجلس الانتقالي”. ومن جهة أخرى، يواجه ضغوطاً إقليمية متناقضة؛ فبينما كان يستند تاريخياً إلى شبكة دعم قطرية–تركية، وجد نفسه منذ العدوان على اليمن عالقاً بين رغبة السعودية في ضبط سلوكه واندفاع الإمارات نحو تصفيته. هذه التناقضات جعلت الحزب عالقاً بين محاولة التمسك بـ”شرعيته الداخلية” عبر خطاب “المقاومة الشرعية” و”اليمننة”، وبين عجزه عن ترجمة هذا الخطاب إلى نفوذ فعلي يوازي حجم التحديات. وفي هذا السياق، باتت محافظة تعز تمثّل المعقل الأهم والأخير الذي يمكن من خلاله قياس قدرة “الإصلاح” على الصمود أو الانكفاء، الأمر الذي يفسر شراسة الصراع حولها اليوم.

تغريدة “حميد الأحمر” كمؤشر على تعقّد المشهد

تُعدّ تغريدة القيادي في “حزب الإصلاح” حميد الأحمر وثيقة سياسية بالغة الدلالة، ليس فقط لأنها تتناول حادثة اغتيال افتِهان المشهري وما تلاها من تداعيات، بل لأنها تكشف بوضوح العمق الحقيقي للأزمة التي يعيشها “الإصلاح” في تعز؛ فالأحمر في تغريدته حاول إعادة إنتاج سردية تقليدية تعتبر تعز “بوابة الجمهورية” و”مفتاح تحرير صنعاء”، لكن ما يخفيه هذا الخطاب أكثر مما يصرّح به. إذ تعكس اللغة المستخدمة قلقاً وجودياً من فقدان الإصلاح لهيمنته في المدينة، ومن تصاعد نفوذ خصومه الذين يرون في الجريمة فرصة لتجريمه وإزاحته من المشهد.

الأهمية هنا أن التغريدة تكشف ثلاثة مستويات من الاضطراب: المستوى الأول داخلي–تنظيمي، حيث يخشى “الإصلاح” من أن يتحول الشارع التعزي إلى خصم له بعد أن كان رصيده الأساسي. والمستوى الثاني سياسي–محلي، حيث يتصادم مشروع بيت الأحمر مع مشروع بيت علي صالح الذي يسعى -بدعم إماراتي مباشر- إلى وراثة تعز والسيطرة على موانئها ونقاطها الاستراتيجية. أما المستوى الثالث فهو إقليمي–دولي، حيث يحاول الأحمر تصوير نفسه وحزبه كـ”مدافع عن اليمن” في مواجهة ما يسميها “مشاريع إيران والإمارات”، في وقت يدرك فيه أن خصومه يحظون بدعم من قوى الاحتلال وعلى رأسها الإمارات.

بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى التغريدة باعتبارها مجرد موقف انفعالي أو خطاب وجداني في رثاء ضحية، بل هي مناورة سياسية استباقية هدفها إعادة تعبئة جمهور الإصلاح من جهة، وتحذير خصومه من مغبة الإقصاء الكامل من جهة أخرى.

إن ما يقوله الأحمر علناً عن “الخذلان” و”بوابة تحرير صنعاء” يخفي خلفه إدراكاً عميقاً بأن الإصلاح يواجه أخطر لحظة في تاريخه التنظيمي والسياسي في تعز، وأن المحافظة أصبحت ساحة اختبار حقيقية لمستقبل الحزب بين البقاء كفاعل رئيسي أو الانكفاء التدريجي أمام صعود مشاريع منافسة.

السياق الراهن في تعز

شهدت محافظة تعز تطوراً خطيراً بعد اغتيال افتِهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين، على يد مسلحين سبق أن هددوها بالتصفية. ويُعد هذا الحادث الأول من نوعه في التاريخ اليمني من حيث استهداف امرأة مسؤولة بهذه الطريقة، ما منحه بعداً صادماً للرأي العام المحلي والوطني.

أدى الاغتيال إلى تفجير أزمة أمنية عميقة، ترافقت مع انتفاضة شعبية أجبرت “السلطة المحلية” على ملاحقة الجناة وإيداع بعضهم السجن المركزي، إلا أن ذلك لم يُنهِ الأزمة، بل فتح الباب أمام صراع سياسي–أمني أوسع بين الفصائل المتنافسة داخل معسكر العدوان.

القوى الفاعلة

تُظهر حادثة اغتيال افتِهان المشهري وما تلاها من تداعيات حجم التشظي داخل معسكر العدوان في تعز. “حزب الإصلاح” (الذي يهيمن منذ سنوات على مفاصل السلطة المحلية والأمنية في المدينة) وجد نفسه في موقع الاتهام المباشر، سواء من خلال التسجيلات الصوتية التي نسبتها الضحية لقياداته، أو من خلال الضغوط الشعبية التي حملته المسؤولية عن الانفلات الأمني المستشري. هذا الوضع أضعف “شرعية” “الإصلاح” محلياً، وفتح الباب أمام خصومه لتصعيد حملاتهم ضده.

في المقابل، تحرّك المدعو “طارق صالح” مدعوماً بالإمارات لاستثمار الجريمة سياسياً، عبر التلويح بضرورة تغيير القيادات الأمنية والعسكرية في المدينة، وإزاحة الوجوه المرتبطة بالإصلاح.، وقد وفر له ذلك أرضية مناسبة لتوسيع نفوذه في المدينة وميناء المخا، بما ينسجم مع استراتيجيته الأوسع للسيطرة على الساحل الغربي.

أما “المجلس الانتقالي” فقد تعامل مع الحادثة بوصفها فرصة لتدويل ملف “الإصلاح” وإضعافه على المستوى الدولي، إذ دعا رئيسه “عيدروس الزبيدي” إلى تصنيف “الإصلاح” كمنظمة إرهابية، مستشهداً بجريمة اغتيال المشهري بوصفها دليلاً على “الإرهاب الممنهج”.

كما لم يكن غائباً عن المشهد كل من الحزب الاشتراكي والناصري، اللذين سعيا إلى العودة إلى الواجهة عبر الانخراط في احتجاجات الشارع، مستندين إلى ذاكرة تراكمية من الصدامات السابقة مع “الإصلاح”، خصوصاً بعد اغتيال عدنان الحمادي في 2019. وبهذا، تحولت الأزمة إلى مساحة مفتوحة لإعادة تموضع مختلف القوى المتنافسة، بحيث أصبح الإصلاح محاصراً بين خصوم متعددين، لكل منهم أهدافه وأدواته.

الأبعاد

الأزمة الراهنة في تعز تحمل أبعاداً متعددة تتجاوز حدود حادثة الاغتيال ذاتها:

على المستوى الأمني، تكشف هذه الأزمة هشاشة منظومة السيطرة داخل المدينة، حيث تبدو الأجهزة الأمنية أداة في يد الفصائل المتصارعة أكثر من كونها سلطة محايدة لفرض النظام؛ فالحملات الأمنية التي أُعلنت عقب الحادثة لا يُنظر إليها كمسعى جاد لتحقيق العدالة، بل كوسيلة لتصفية الحسابات بين الفصائل، وامتصاص “الإخوان” للسخط الشعبي، وهو ما يعزز حالة عدم الثقة بين المجتمع والسلطة الإخوانية القائمة.

أما على المستوى السياسي، فإن الحادثة جاءت في سياق صراع أوسع لإعادة توزيع النفوذ داخل تعز؛ فالإصلاح، رغم محاولاته التغطية على مسؤوليته، أصبح يواجه خطر تآكل سلطته نتيجة ضغط شعبي من الداخل وتحرك سياسي من الخارج، فيما يسعى “طارق صالح” إلى توسيع حضوره كبديل أكثر ولاءً بالنسبة للإمارات.

وعلى المستوى الإقليمي، يتضح أن الأزمة ليست محلية خالصة، بل مرتبطة بتنافس المشاريع الخارجية في اليمن: فالإمارات تسعى لتقويض الإصلاح عبر أدواتها الميدانية، بينما يتمسك الحزب بدعمه التقليدي من قطر وتركيا، فيما تحاول السعودية أن تمسك العصا من الوسط، مكتفية بإدارة التوازن دون تمكين أي طرف من الحسم، هذه الأبعاد مجتمعة تجعل من الأزمة في تعز مرآة لصراع إقليمي تتجاوز نتائجه حدود المحافظة، ليعكس توازنات القوى داخل معسكر العدوان بأسره.

الاتجاهات

تشير المعطيات المتاحة إلى ثلاثة اتجاهات رئيسة يمكن أن تتطور إليها الأزمة: أولها -وهو الأكثر ترجيحاً- يتمثل في إعادة تركيب السلطة المحلية لصالح خصوم “الإصلاح”، من خلال إزاحة القيادات الأمنية والعسكرية المرتبطة به وإحلال وجوه محايدة أو موالية لطارق صالح بدلا عنها، هذا الاتجاه يجد دعماً في ضغوط الشارع من جهة، وفي رغبة الإمارات في تقليص نفوذ “الإصلاح” من جهة أخرى.

الاتجاه الثاني يتمثل في إمكانية التهدئة المؤقتة عبر محاكمة رمزية للجناة، وإجراءات شكلية لطمأنة الشارع، غير أن هذا المسار يظل هشاً للغاية، إذ إن جذور الأزمة أعمق من أن تُعالج بمثل هذه الترتيبات.

أما الاتجاه الثالث -وإن كان أقل احتمالاً- فهو الانزلاق نحو صراع مسلح داخلي، قد يحدث في حال فشلت ترتيبات التهدئة وتصاعدت الاستفزازات بين الفصائل، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام توسيع التدخل الخارجي، وإعادة تعز إلى مربع الفوضى الدامية. وعليه، فإن المرجح -في المدى القريب- هو تحوّل الأزمة إلى أداة لتقليص نفوذ “الإصلاح” وإعادة توزيع موازين القوة، دون استبعاد احتمالات الفوضى إذا ما أسيء التعامل مع الشارع.

في الختام:

تكشف أزمة تعز الراهنة أن المحافظة لم تعد ساحة خاضعة لهيمنة فصيل واحد، بل أصبحت مسرحاً لتصادم مشاريع متعددة داخل معسكر العدوان. فـالإصلاح وبيت الأحمر يحاولان التمسك بإرث نفوذهم التقليدي، فيما يسعى “طارق صالح” وبيت “علي صالح”، برعاية إماراتية، إلى وراثة هذا النفوذ والسيطرة على منافذ المدينة الاستراتيجية. أما “المجلس الانتقالي” فقد وجد في الأزمة فرصة لتوسيع حملته الدولية ضد “الإصلاح”، في حين يحاول الاشتراكي والناصري استعادة موقعهما عبر ركوب موجة الغضب الشعبي.

في هذا السياق، تبرز تغريدة “حميد الأحمر” كمؤشر على إدراك “الإصلاح” لمأزقه العميق، إذ لم يعد قادراً على فرض سيطرته السابقة ولا على طمأنة جمهوره الداخلي. وبناءً على ذلك، فإن مستقبل تعز يتجه نحو إعادة توزيع موازين القوة بما يقلص دور “الإصلاح” ويعزز نفوذ خصومه، مع بقاء المحافظة بؤرة توتر دائمة تعكس هشاشة البنية الداخلية لمعسكر العدوان وتناقضاته البنيوية.