الصمود حتى النصر

تهجير أبناء قطاع غزة.. جذور المشروع الصهيوني وسيناريوهات الإجهاض

الصمود||تحقيق||

منذ تأسيس الكيان الصهيوني الغاصب، ظلّ التهجير للفلسطينيين الركيزة الأساسية والأخطر في مشروعه الاستعماري الاستيطاني، وأداة رئيسية في تحقيق أهدافه التوسعية.. العدوان الصهيوني على غزة منذ 7 أكتوبر 2023 لم يكن سوى فصلٍ متجدد في مخططٍ متراكم يهدف إلى اقتلاع الإنسان الفلسطيني من أرضه، وإحداث تغيير ديموغرافي يخدم الاستيطان والتوسّع، تحت مظلة دعمٍ أمريكيٍّ واسع وصمتٍ دوليٍ معيب.

هذا التحقيق يعيد تركيب المشهد من جذوره: خطط التهجير وآليات التنفيذ، المسارات التاريخية، المواقف العربية والإسلامية، ودور محور المقاومة في رسم سيناريوهات الإجهاض وإفشال المشروع الصهيوني.

أولاً: الخطة الراهنة كما تتكشّف.. “الترحيل إلى ست دول”

  • تسريبات صحفية غربية (منها ما نشرته صحف أمريكية بارزة) تكشف عن تحرّكات يقودها العدو الصهيوني لتهجير الغزّيّين قسراً إلى ست دول عربية وإفريقية، وذُكرت ضمنها: سوريا، ليبيا، جنوب السودان، أرض الصومال، مع سعي حثيث لاستغلال هشاشة بعض البيئات السياسية والاقتصادية.
  • المقاربة التنفيذية: اتصالات مباشرة مع حكوماتٍ ووسطاء؛ محاولات “توطين” قسري مقنّع تحت عناوين: فرص عمل، مناطق إسكان مؤقت، مدن خيام، ممرات إنسانية، أو برامج “هجرة طوعية” مدفوعة بالإكراه.
  • الهدف الديموغرافي: تفريغ غزة من كتلتها البشرية أو تقليصها جذرياً، وإحكام قبضة الاستيطان؛ ربط ذلك بمنظور “الأمن القومي الصهيوني” و”الكابوس الديموغرافي” الذي يتحدث عنه قادة اليمين المتطرف.
  • ردّ المقاومة الفلسطينية: تأكيد أن المؤامرة لن تمر، وأن حقّ العودة وتقرير المصير غير قابلين للتصرف، وأن الصمود فوق الأرض هو خط الدفاع الأخير في مواجهة التطهير العرقي.

ثانياً: جذور المشروع.. ثمان مراحل تاريخية لصناعة التهجير

التهجير ليس طارئاً؛ هو سياسة أصلية في الأيديولوجيا الصهيونية منذ ما قبل مؤتمر بال (بازل) 1897، وتحوّل لاحقاً إلى أدواتٍ عسكرية وقانونية واقتصادية وإعلامية.. يمكن تتبّع مساره عبر ثمان محطات رئيسية:

1) ما قبل 1897 حتى التنظير الصهيوني المبكر

– 1845: مقترح إدوارد ميتفورد (الخارجية البريطانية) بإنشاء وطن لليهود في فلسطين وإجلاء المسلمين إلى الأناضول.

– 1895–1897: مذكّرات “هرتزل” والتنظيرات الأولى للمصادرة و”تهريب الفقراء”، وإسناد تنظيري من :أوسيشكين” و”روتشايلد” و”جابوتنسكي” و”بن غوريون” و”كتسنلسون” لخيارات النقل والترحيل.

2) الانتداب البريطاني وبناء البنية الاستعمارية (1920–1947)

  • تسهيل الهجرة الصهيونية وشراء الأراضي بإمرة “هربرت صموئيل”.
  • لجنة بيل 1937: تقسيم + نقل قسري مقترح لـ225 ألف فلسطيني، احتفى به قادة الحركة الصهيونية.
  • تحضير جهاز القسر والحرب النفسية قبيل الانسحاب البريطاني.

3) النكبة 1948: التطهير العرقي المؤسّس

  • عصابات الهاغاناه والأرغون وشتيرن تنفّذ مجازر (دير ياسين، الطنطورة، الدوايمة…)، وإطلاق خطة دالت.
  • تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني، وتدمير مئات القرى، ومنع العودة بقرارات وإجراءات منظمة.

4) ما بعد الهدنة والحكم العسكري (1949–1966)

  • “تطهير الحدود” وطرد عشرات الآلاف داخل/خارج خطوط 48.
  • قوانين المصادرة (أملاك الغائبين) و”حق العودة” لليهود حصراً.
  • محاولات هندسة تهجير خارجي (خطة “يوحنان” إلى أميركا الجنوبية، مشاريع ليبيا، استغلال العدوان الثلاثي ومجزرة كفر قاسم…)

5) احتلال 1967 وما بعده (1967–1973)

  • احتلال ما تبقّى من فلسطين وتهجير أكثر من 320 ألف من الضفة وغزة.
  • مشاريع “الهجرة الطوعية” القسرية: خفض مستوى المعيشة، تقليص المياه، مكاتب هجرة في مخيمات غزة، خطة “الأصابع الخمسة” الاستيطانية.
  • صفقات تهجير إلى أميركا اللاتينية (اتفاق باراغواي) تفشل بفعل الرفض الشعبي.

6) بين حرب 1973 وانتفاضة 1987

  • تصاعد خطط “الترانسفير” (بيغن، كاهانا، زئيفي…) ومحاولات تفريغ المخيمات.
  • استثمار الحروب والإرباك الإقليمي للدفع نحو الرحيل تحت عنوان “تحسين الوضع الاقتصادي” في المنافي.

7) من أوسلو حتى عشيّة العدوان الصهيوني 2023

  • أطُر “توطين اللاجئين حيث هم”، الدعوة لإلغاء الأونروا، و”التبادل السكاني” (ليبرمان).
  • حصار غزة (منذ 2006) وحروب 2008/2012/2014/2021؛ بطالة وفقر قياسيان ودفع منظم للهجرة.
  • مشاريع سيناء (إيلاند 2010)، وخطط اليمين (سموتريتش 2017)، ونقاشات حكومية 2019 لتسهيل الرحيل.

8) من عدوان 7 أكتوبر 2023 إلى 2025.. أكبر مختبر تهجير قسري

  • وثائق وزارية مسرّبة لتهجير الغزّيّين نحو سيناء ثم دولٍ أخرى؛ طرح مطار نقل، ومدن خيام ومناطق فاصلة.
  • خطة الجنرالات (2024): حصار وتجويع كامل لشمال غزة وإعادة الاستيطان؛ تنفيذ فعلي عبر القصف والمنع والاقتلاع.
  • الأثر: أكثر من 60 ألف شهيد، نزوح داخلي يقارب المليونيْن، وتقدير أممي: تضرّر/تدمير 92% من المساكن والبنية الصحية على شفا الانهيار.

ثالثاً: آليات التنفيذ.. من “الهجرة الطوعية” إلى القسر المُقَنَّع

  • الحصار والتجويع: عقاب جماعي، تفكيك سلاسل الإمداد، ضرب النظام الصحي، تحويل البقاء إلى معاناة وجودية.
  • الهدم والاقتلاع المتكرر: تدمير الأحياء والبنية الأساسية وإبقاء العودة شبه مستحيلة.
  • الهندسة الديموغرافية: ممرات نزوح قسرية، مناطق فاصلة، منع إعادة الإعمار، و”إدارة” الكثافة السكانية.
  • المياه والموارد: تقليص الإمدادات كوسيلة طرد (سابقاً مقترح تجفيف القطاع، لاحقاً استخدام القَطْع والحرمان كسلاح).
  • برامج الهجرة والوساطة: مكاتب، حوافز مالية، تأشيرات مؤقتة، ربط المساعدات باستيعاب المهجّرين.
  • شيطنة المقاومة والضحية: تسويق التهجير باعتباره “إنسانياً” أو “حلاً واقعياً”، وتوصيف البقاء على الأرض كـ”تهديد أمني”.

رابعاً: الغطاء الأمريكي والغربي.. من “صفقة القرن” إلى توصيف التهجير كحل

  • الدور الأمريكي الحاكم: رعاية الحصار والحرب بالسلاح والفيتو، ومقترحات نقل وتوطين بصيغ مختلفة وصولاً إلى طرحٍ في فبراير 2025 لإخلاء سكان غزة نحو دول عربية وأخرى.
  • تماهٍ صهيوني سياسي وشعبي: قيادات اليمين تعتبر “الهجرة” الحل الوحيد، واستطلاعات رأي داخل الكيان تُظهِر نسب تأييد مرتفعة لفكرة الترانسفير.
  • تدوير المصطلحات: من “الهجرة الطوعية” إلى “تبادل الأراضي والسكان”، لتخفيف الكلفة القانونية والأخلاقية لجريمة التهجير القسري.

خامساً: المواقف العربية والإسلامية والإنسانية

  • رفضٌ رسمي واسع لمحاولات التوطين خارج فلسطين، خاصة من مصر والأردن، ورفضٌ عربي عام لخطط نقل الغزّيّين إلى سيناء أو أي بلدٍ آخر.
  • قبول محدود إنساني في حالات لَمِّ الشمل (مثال: برامج مؤقتة في دول غربية لذوي الجنسيات/الإقامات)، دون تبنّي مشروع التهجير السياسي.
  • المجتمع الدولي: بيانات قلق وإدانات متفرقة، دون إجراءات رادعة توقف الحرب أو تُسقط خطة الاقتلاع.
  • الموقف الشعبي العربي والإسلامي: مظاهرات، حملات ضغط ومقاطعة، دعم إنساني وميداني، وتأكيد على مركزية حق العودة ورفض هندسة القضية خارج فلسطين.
  • الموقف اليمني ومحور المقاومة: تحرك اليمن رسمياً وشعبياً من خلال عمليات للقوات المسلحة اليمنية، والمسيرات الجماهيرية الحاشدة، في إسناد مباشر لغزة والضغط على العدو؛ كما يعكس محور المقاومة في إيران ولبنان والعراق، كلفة مرتفعة لأي مشروع تهجير، ويؤكد تلاحم الأمة ودعم الصمود الفلسطيني، ورفض أي صيغة توطين أو نقل خارج فلسطين.

سادساً: الوضع في الضفة الغربية: التهجير الزاحف

مداهمات وعمليات تجريف وحصار المخيمات (جنين، طولكرم/نور شمس…)، ملاحقة الأهالي ومنع العودة، تهيئة بيئات طاردة ضمن هندسة اقتلاع متدرّجة.

سابعاً: التوصيف القانوني: جريمة تهجير قسري وتطهير عِرقي

  • القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف): يجرّم النقل القسري للسكان في الأراضي المحتلة.
  • نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية: يَعدّ الإبعاد أو النقل القسري للسكان جريمة ضد الإنسانية عند ارتكابها على نحو واسع أو منهجي.
  • قرارات الأمم المتحدة: القرار 194 (1948) يُثبّت حقّ العودة والتعويض؛ أي تسوية تتجاهله تعدّ شرعنةً للجريمة لا حلاً لها.
  • المسؤولية الدولية: المشاركة في التخطيط أو التيسير أو التمويل لتهجير الغزّيّين يندرج ضمن الإسهام في جريمة دولية.

ثامناً: دلالات ديموغرافية واستراتيجية

  • تهجير الغزّيّين لا “يُنهي” المقاومة؛ فالتجربة أثبتت أن الضغط يولّد ارتداداً مقاومياً ويُعمّق ارتباط الناس بأرضهم.
  • هندسة الفراغ السكاني في غزة تُواجَهُ بعوامل مضادة: التشبث الشعبي، البعد الديني والوطني، شبكات التضامن الإقليمي، وحقائق الجغرافيا.
  • تفريغ غزة -إن نجح- يفتح شهية العدو الصهيوني على خطط توسّع أشمل (الضفة، القدس، المثلث والجليل)، ما يُهدد الأمن الإقليمي برمّته.

تاسعاً: سيناريوهات مفتوحة.. كيف تتحرّك الخطة؟ وكيف تُفشل؟

سيناريوهات الخطة

  • ترحيل متدرّج مقنّع عبر الممرّات “الإنسانية” ومدن الخيام، مع قوننةٍ لاحقة بصيغة “تبادل الأراضي والسكان”.
  • “هجرة طوعية” مُنتَجة قسراً عبر التجويع والتدمير والمنع من الإعمار.
  • ترحيل محدود أولاً (ملفات خاصة/لمّ شمل) لخلق سابقة سياسية تُبنى عليها موجات أوسع.

مفاتيح الإجهاض

  • تثبيت معادلة البقاء: صمود شعبي، حماية المخيمات، فكفكة أدوات التجويع، دعم المنظومة الصحية والإغاثية.
  • المسار القانوني الدولي: توثيق ممنهج، ملفات أمام الجنائية الدولية، مذكرات اعتقال، وملاحقة شبكات التمويل.
  • إسناد إقليمي وشعبي: ضغط عربي وإسلامي واضح يرفض أيّ صيغة توطين خارج فلسطين، ودعم إعادة الإعمار المشروط بحق العودة.
  • المعركة الإعلامية: تسمية الأشياء بأسمائها: تهجير قسري/تطهير عرقي لا “حل إنساني”، وكشف خطاب التلاعب بالمصطلحات.
  • الدعم العسكري المساند: عمليات إسناد من القوات اليمنية، حزب الله، والمقاومة العراقية تستهدف خطوط الإمداد الصهيونية، تعزيز الردع وتقليل قدرة العدو على تنفيذ خطة الاقتلاع.

عاشراً: اليمن ومحور المقاومة..  تحصين الجبهة وكسر هندسة التهجير

  • في التجربة المعاصرة، برزت القوات المسلحة اليمنية ومواقف الجماهير اليمنية كعامل ردع أخلاقي واستراتيجي يدعم صمود غزة ويناهض خطط الاقتلاع.
  • محور المقاومة يبلور كلفةً عاليةً لأيّ محاولة تفريغ ديموغرافي، ويؤسس لتوازن ردعٍ إقليمي يقلّص هامش مناورة العدو الصهيوني والراعي الأمريكي.

قضية تهجير غزة ليست “تفصيلاً”.. إنها قلب الصراع

إن مشروع التهجير القسري -قديمه وحديثه- هو جوهر العقيدة الصهيونية الاستعمارية، وكلّ تسوية تتجاوز حق العودة وتُقصي الإنسان الفلسطيني عن أرضه ليست سوى تفويضٍ مفتوحٍ للتطهير العِرقي.. العدوان الراهن كشف كل الأوراق: حصار وتجويع، تهديم ومنع إعمار، وتدوير لغوي يحاول غسل الجريمة.

الردّ المطلوب عربيّاً وإسلامياً ودولياً: تحريم التهجير بصيغه كافة، واعتبار أيّ تعاونٍ معه مشاركةً في جريمة، وربط الإغاثة والإعمار بحقوق الشعب غير القابلة للتصرف، وتثبيت معادلة الصمود والمقاومة حتى تُهزَم خطة الاقتلاع وتُنتزع العدالة.. هذا هو الطريق الوحيد لحماية غزة وفلسطين من الهندسة الاستعمارية الجديدة-القديمة.

نقلاً من موقع 21 سبتمبر