الصمود حتى النصر

المجاعة تعلن رسميًا في غزة لأول مرة في تاريخ الشرق الأوسط

الصمود||تقرير||

فلسطين التي غزّة جزء منها، تبدو من أول وهلة اسماً صغيراً، لكنه يكتنز جرح الأرض. تطل غزة على بحر واسع الأفق لكنها عاطشة، تمتد على أرض خصبة لكنها جائعة. في شوارعها الصغيرة يتعالى أنين الأطفال، وفوق ركامها ينام الجوع كضيفٍ ثقيل لا يرحل.

ما يعرفه الناس منذ شهور تعلنه الأمم المتحدة اليوم بعد 22 شهراً: المجاعة تفشّت. لكن الحقيقة أكبر من بيانٍ أممي، إنّها مأساة بحجم الإنسانية ذاتها، خاصة وهي المرة الأولى التي تعلن فيها المجاعة بمنطقة “الشرق الأوسط”.

التصنيف الدولي لانعدام الأمن الغذائي الذي تشارك فيه الأمم المتحدة، أعلن حدوث المجاعة في محافظة غزة وتوقع انتشارها إلى محافظتي دير البلح وخان يونس بنهاية سبتمبر. موضحاً أن أكثر من نصف مليون شخص في قطاع غزة يواجهون ظروفاً كارثية، أي المرحلة الخامسة من التصنيف، ومن خصائصها الجوع الشديد والموت والعوز والمستويات الحرجة للغاية من سوء التغذية الحاد. وذكر التصنيف أن 1.07 مليون شخص آخر (54% من السكان) يواجهون المرحلة الرابعة وهي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد “الطارئ”. ويواجه 396 ألفاً (20% من السكان) المرحلة الثالثة وهي مرحلة انعدام الأمن الغذائي الحاد “الأزمة”.

في شمال غزة، حيث البيوت صارت ركامًا، يرفع الناس أصواتهم طلبًا للغوث، ولا يجدون سوى بيانات فارغة. أكثر من نصف مليون إنسان يعيشون المرحلة الخامسة من التصنيف الأممي: “المرحلة الكارثية”، وهي كلمة لا تحمل وقعها الحقيقي. ففي هذه المرحلة لا تجد الأم شيئًا لتضعه في فم رضيعها سوى دموعها، ولا يجد الشيخ المريض دواء يُسكّن أوجاعه. إنها مرحلة الصمت الكبير، حيث يتوقّف الكلام ويبدأ الموت.

كارثة من صنع اليهود 

الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش المعروف بشعوره بالقلق وحسب، قالها اليوم بصوتٍ مثقلٍ بخزي هو أحد صناعه: “المجاعة في غزة كارثة من صنع الإنسان”، دون إشارة إلى أنها من صنع الإنسان اليهودي وحسب،  نعم، ليست زلزالًا، ولا جفافًا، ولا لعنة من السماء، بل حصارٌ محكم، وسياسة قتلٍ بطيء، وتجويعٌ متعمّد ترتكبها عقيدة اليهود الفاسدة المفسدة. فأي إنسانٍ هذا الذي يحوّل الطعام إلى قنبلة، والخبز إلى رصاصة؟ أي ضميرٍ هذا الذي يسمح لطفلة أن تموت جوعًا على بعد كيلومترات من شاحناتٍ مليئة بالطعام تُترك على المعابر حتى يفسد محتواها؟ الإجابة بالتأكيد: إنه الإنسان اليهودي ذو التاريخ الطويل من الإجرام والوحشية.

في غزة، لكلّ طفلٍ حكاية، ولكلّ بطنٍ فارغ قصة. طفلةٌ صغيرة اسمها غدير بريكة، خمسة أشهر فقط، فارقت الحياة في حضن أمها. لم تقتطفها صواريخ الطائرات الإسرائيلية، بل التقطها الجوع كوحشٍ صامت يقف خلفه وحوش بشرية. ارتحلت غدير من هذه الدنيا تاركةً أمّها تبكي: “لماذا لم تُعطوها جرعة حليب واحدة؟”. ومثل غدير آلاف الأطفال، أسماؤهم لم تُكتب بعد، لكن مصائرهم مرسومة في عيونٍ شاخصة نحو الموت. وسيستمر الأمر كذلك ما دام بنو صهيون يعربدون في الأرض دون رادع.

الجوع ينهش الأطفال

وكالة الأونروا ترسم لوحةً قاتمة: أطفال يتنقّلون بين نزوحٍ ونزوح، بلا بيتٍ دائم ولا مأوى ثابت. تسعة من كل عشرة يعيشون في مناطق مهدّدة، وواحد من كل ثلاثة ينهشه سوء التغذية. تخيّلوا أطفالًا لا يعرفون طعم الحليب، ولا رائحة الخبز الطازج، ولا أمان السرير. تخيّلوا طفولةً كاملة تُختصر في صفّ طويل أمام شاحنة مساعدات، أو في دمعةٍ تذوب على خدّ أمٍ مقهورة. كل هذا الإجرام وأكثر يصنعه اليهود ثم يقولون زوراً: إن هذا الإجرام بأمر الله!.

تضيف “الأونروا”: إنَّ الأطفال في غزة محاصرون في مساحات آخذة في الانكماش، خاصةً أن ما يقارب 90% من قطاع غزة يقع ضمن مناطق عسكرية إسرائيلية، أو تحت أوامر نزوح، أو كليهما معًا.

المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان كشف جانبًا آخر من المأساة: العدو الإسرائيلي لا يكتفي بمنع المساعدات، بل يقتل المزارعين ويحوّل الحقول إلى مقابرٍ للنباتات. خمسة مزارعين استُشهدوا مؤخرًا برصاص طائرة مسيّرة، لأنهم حاولوا أن يزرعوا أرضهم. 93% من الأراضي الزراعية باتت محتلة أو مدمّرة، وآلاف الآبار جُفّفت، وأكثر من 85% من الدفيئات الزراعية سُوّيت بالأرض. إنهم لا يريدون لأهل غزة أن يأكلوا حتى من عرق جبينهم، وكأنهم يقطعون الهواء عن رئةٍ تحتضر. هكذا هي النفسية اليهودية.

أمجد الشوّا، رئيس شبكة المنظمات الأهلية، يقول بمرارة: “مستشفياتنا ركام، وما دخل من مساعدات لم يُخفف شيئًا من المجاعة”. كلمات قليلة تختصر انهيار المنظومة الصحية بكاملها. مستشفياتٌ بلا أدوية، غرف طوارئ بلا أسرّة، أطباء يداوون المرضى بالدعاء. والمساعدات التي تدخل لا تكفي، بل تُنهب وتُحتجز، كأنها حبّات مطرٍ تتساقط في صحراء عطشى.

ومن قلب الظلام، يرفع رامز الأكبروف، منسق الشؤون الإنسانية في فلسطين المحتلة، صوته: “إنه جرس إنذار مدوٍّ”. لكن جرسه لا يوقظ أحدًا. العالم يسمع ويرى، ثم يواصل صمته الثقيل بعد أن تحول الجميع إلى ذراع للصهيونية. لقد تحوّلت غزة إلى مرآة قاسية تعكس وجه الصهيونية ووجه العالم الحقيقي: وجهٌ باردٌ يتأمل الجوع من بعيد وكأنه مشهد في فيلم لا يعنيه لأن الضحية عربي مسلم.

أيها العالم

غزة ليست أرقامًا في تقارير دولية. غزة ليست “مرحلة خامسة” في تصنيف أمني. غزة لحمٌ حيّ، دماءٌ تتدفق، أطفالٌ يموتون جوعًا. غزة أمٌّ تُهدئ طفلها الجائع لتُخفي دموعها، وشيخٌ يجرّ جسده الواهن بحثًا عن لقمة، وطفلٌ يكتب على رمال البحر: “أنا جائع”.

في غزة، لا يموت الناس فقط بالقصف، بل يموتون مرتين: مرةً حين تسقط عليهم القذيفة، ومرةً حين يسقط عليهم الجوع. بل ومرة أخرى حين يرون مليارات البشر بلا موقف خوفاً من اليهود. أي حرب هذه التي تذبح الروح قبل الجسد؟ أي حصار هذا الذي يُحوّل الخبز إلى حلم، والماء إلى أسطورة؟ هل يعقل أن اليهود يسيطرون على أرض وعقول البشرية؟!

غزة اليوم قصيدة مكتوبة بالدموع، مرثية يتلوها العالم على نفسه حين ارتضى اعتلاء اليهود. كل بيتٍ في غزة شاهدٌ على جريمة، وكل شارعٍ مسرحٌ لمأساة. وغزة بكلها صورة عن وحشية اليهود النجسة. المجاعة ليست خبرًا، بل جرحًا مفتوحًا في جبين البشرية. والظاهر أن الحصار لن يتوقّف، وأن التاريخ سيكتب عن هذا العصر بأنّه عصرٌ ترك فيه العالم طفلة تموت جوعًا على مرأى ومسمع الجميع لأنهم لا يجرؤون على الوقوف في وجه الصهيونية.

فمن يسمع؟ من يجرؤ أن يوقف آلة الموت لدى اليهود؟ من يفتح المعابر لتمرّ قافلة خبز، بدل أن تمرّ قافلة جنازات؟ ألهذا الحد يعربد اليهود؟!

غزة اليوم لا تطلب المستحيل، بل تطلب الحقّ البسيط: أن تأكل، أن تشرب، أن تنام بلا خوف، أن تضحك بلا دموع. لكنها في المقابل تمنح العالم سؤالًا أبديًا: أيُّ بشرٍ أنتم، إذا تركتم اليهود يميتون غزة جوعًا؟

نقلاً عن موقع أنصار الله