المستقبل لا تقرّره البوارج بل الشعوب
الصمود||مقالات||سند الصيادي
منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها اليمن، عبرَ قيادته التاريخية الثورية المباركة، موقفَه المبدئي والثابت في نصرة الشعب الفلسطيني، كانت الدلائل تؤكّـد أنه لم يكن ذلك مُجَـرّد بيان تضامني عابر، بل تدشينًا لمسيرة شاملة وفعلية تعكس ترجمة عملية لوعد قطعه اليمنيون على أنفسهم بأن يكونوا في طليعة المواجهة ضمن محور المقاومة.
ومع مرور الشهور وتوالي الأحداث، تبيّن أن اليمن لم يدخل هذه المعركة بردّة فعل عاطفية أَو بدوافع دينية وإنسانية مُجَـرّدة من خطط تصعيدية واعية، بل بخطوات تراتبية حكيمة بلغت ذروتها مع دخول المرحلة الرابعة من الحصار البحري.
المرحلة الرابعة من الضغط على الكيان الصهيوني ليست مُجَـرّد تكتيك عسكري، بل هي خطوة استراتيجية تعكس فهمًا عميقًا لطبيعة المعركة ضد كيانٍ يقوم اقتصاده على موانئ وشبكات شحن حساسة. ومع أن العدوّ كان يراهن على قدرة واشنطن وحلفائها على تأمين “ظهره البحري”، إلا أن اليمن استطاع، عبر تنكيله النوعي بالبوارج والقطع البحرية الأمريكية، واستهدافه الدقيق للمصالح والشركات المتعاملة مع الكيان، أن يقلب معادلات القوة ويجعل الملاحة الدولية تعيد حساباتها.
تحوُّلٌ أجبر عشرات الشركات على إعادة النظر في علاقاتها مع “تل أبيب”، وأدّى فعليًا إلى شلل كبير في ميناء “أم الرشراش” (إيلات)، الذي كان يُمثّل شريانًا حيويًا للتجارة الصهيونية. وما يحصل اليوم هو أبعد من مُجَـرّد استهداف لمرفق أَو سفينة، إنه إطباق تدريجي على اقتصاد الاحتلال، كشف هشاشته الداخلية، وأجبر مستوطنيه على الشعور بثقل الحرب، وهم بعيدون عن ساحة القتال. لم يعد الصراع محصورًا في غزة أَو لبنان، بل أصبح البحر الأحمر جبهة مفتوحة، واليمن رقمًا صعبًا فيها.
المعادلة الجديدة التي فرضها اليمن أربكت ليس فقط كيان العدوّ، بل أَيْـضًا الإدارة الأمريكية، التي وجدت نفسها أمام مقاومة لا تخضع للابتزاز، ولا تخاف من التهديدات، بل تزداد حضورًا وقوة كلما اشتدّ الحصار واشتعلت المواجهة.
واشنطن، التي استنفدت أوراقها العسكرية في عملية “حارس الازدهار”، لم تجد نفعًا، وعادت تبحث عن أدوات قديمة، كتحريك الجبهات الداخلية أَو اللعب على تناقضات التحالفات، لكنها اصطدمت بخطاب ثوري متوعّد يُقيم الحجّـة على الجميع قبل ارتكابهم المزيد من الحماقات، وبواقع سياسي يمني أكثر تماسكًا من أي وقت مضى.
واللافت أن اليمن، رغم ما حقّقه من إنجازات استراتيجية، لا يزال يتعامل بحكمة وتحفّظ، ولم يستخدم حتى الآن كامل قدراته. فالهجمات النوعية لا تعكس سقف القوة المتاحة، بل ما تسمح به الحاجة والتوقيت. وهذا “الغموض المحسوب” يضع العدوّ في حالة استنفار دائم، ويجعل من أي مغامرة ضد اليمن مقامرةً مكلفة قد تطال خطوط الإمدَاد الأمريكية في المنطقة.
لكن الأهم من كُـلّ ذلك، أن اليمن لا يخوض هذه المعركة لمجده الوطني، بل يحمل راية قضية مركزية اسمها فلسطين. الانتصارات اليمنية لا تُكتب في صنعاء فقط، بل تُسجّل أَيْـضًا في غزة والقدس وكل أرض عربية تحت أقدام الاحتلال. إنها معركة أُمَّـة بأكملها، اختار فيها اليمن أن يكون في طليعتها، لا على هامشها.
لقد أثبتت صنعاء، بحنكة قيادتها الثورية المباركة وبأس رجالها، أنها شريك فاعل في معركة الكرامة، وصانع لتحوّلات حقيقية في توازن الردع. وفي ظل هذا الواقع المتغير، بات السؤال الملحّ لدى العدوّ قبل الصديق:
إلى أين يمكن أن يصل اليمن؟
والجواب الوحيد:
إلى، حَيثُ يجب أن يصل…؛ مِن أجلِ غزة والمقدَّسات، ومن أجل كسر الهيمنة، ومن أجل مستقبلٍ لا تقرّره البوارج، بل الشعوب.