حين سكتت العواصم.. وتكلم البحر من اليمن
الصمود – بقلم/ أحمد إبراهيم المنصور
لم يكن البحر هذه المرة ساكناً، ولا صامتاً كعادته أمام سفن التواطؤ التي تمخر عبابه باسم التجارة، وتحمل في أحشائها وقود القتل ومؤن الحصار. فالموج الذي طالما اعتاد استقبال السفن، بات يرفض المرور الصامت، ويهدر بلسان يمني خالص. لقد خرج الصوت من صنعاء، لكنه ارتطم بجدران تل أبيب، واخترق غطرسة العواصم الصامتة، فكانت الكلمة التي ألقاها السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي في الحادي والثلاثين من تموز، أشبه بنداء تاريخي يبعث الحياء في وجه أمة تثاقلت عن نصرة غزة، وتخاذلت عن دفع الحصار، إلا من كان في سطر الشرف، حيث تقف صنعاء وغزة كتفاً بكتف.
الكلمة لم تكن خطاباً، لكنها كانت موقفاً مجرّداً من كل تكلّف، موقفٌ يشبه صدى الحسين وهو يخاطب أهل الكوفة، لم يطلب السيد المستحيل، ولم يبالغ في الأحلام، بل وضع الإصبع على الجرح، وسمّى الأشياء بأسمائها. تحدث عن التخاذل العربي بوصفه سبباً مباشراً في تفاقم العدوان، لا كعامل جانبي. كشف أن الصمت لم يعد مجرد عار أخلاقي، إنما أصبح وقوداً للقتل، وسكوتاً يشرعن الإبادة.
ولأن صواريخ المجازر لا تتوقف عند صمت الحكومات، وإنما تمر عبر سكوت الشعوب، جاء خطابه موجهاً إليهم، بلا وسطاء. لم يطلب منهم معجزة، لكنه جرّدهم من وهم البراءة، إن لم يتحركوا. دعاهم إلى أن يكونوا شهوداً لا شركاء، إلى أن يوقفوا عجلة التواطؤ الشعبي قبل الرسمي، إلى أن يعيدوا توجيه البوصلة، لأن البوصلة لم تعد تائهة، لكنها ملوّثة. وقد كان خطابه أشد وضوحاً من كل محطات الأخبار التي تمتهن التحليل، لأنه لم يكتف بالوصف، إنما قدّم مساراً.
حين أعلن عن المرحلة الرابعة من الحصار البحري، لم يكن ذلك مجرد تصعيد، إنما كان تأسيسٌ لمعادلة جديدة، تكتبها صنعاء بالحبر ذاته الذي كتب به الإمام الخميني يوماً عبارته الخالدة: “إسرائيل غدة سرطانية يجب اقتلاعها”. صنعاء الآن لا تردد الشعارات، إنما تطبقها. لا ترفع اللافتات، ولكنها تخوض البحر. فالحصار الذي بدأ من الموانئ اليمنية بات اليوم مطوّقاً لكل من تسوّل له نفسه أن يعبر البحر وهو ينقل لإسرائيل أدوات العدوان، ولو تحت غطاء التجارة.
ومثلما كان الحصار في شعب أبي طالب مدرسة في الصبر والموقف، فإن حصار غزة اليوم بات مقياساً لحقيقة كل طرف. لا مكان للحياد في معركة كهذه. وهذا ما عبّر عنه السيد بوضوح، حين وجّه حديثه الصريح للفئات التي تمارس التضليل أو تدعو للفتنة. لقد منح خطابه هؤلاء آخر فرصة للخروج من دائرة الخيانة، لأن الصمت بعد هذا الخطاب لم يعد جهلاً، بل خياراً مدروساً في خدمة العدو.
ما يُحسب لهذا الخطاب أنه أعاد تعريف مفردات النضال الشعبي. لم يعد التفاعل الرقمي كافياً، ولا التهجم على الأنظمة في المقاهي والأزقة. وإنما دعا إلى توظيف الفعل الشعبي في كل مسار ممكن، من المقاطعة إلى الحراك، ومن الكلمة إلى المسيرة، ومن الحضور الوجداني إلى الموقف العملي. هذه ليست دعوة للعاطفة، لكنها صياغة وعي جديد يتجاوز السذاجة الثورية، ويواجه الخيانة بحزمٍ لا يعرف المجاملة.
الشعوب اليوم أمام اختبار تاريخي لا يقل خطورة عن لحظة سقوط بغداد عام 2003، أو لحظة صمت الأمة على مذابح صبرا وشاتيلا. حينها، لم تكن الشعوب مجرد ضحية، ولكنها كانت شريكة بالصمت. واليوم، غزة تُذبح، وتستصرخ من يسمع. والسيد، من صنعاء، يُبلغ الرسالة، ويعيد توجيه البوصلة. والحق أن البوصلة هذه المرة لا تضل، ما دام من يمسك بها رجل لا يعرف أنصاف المواقف، ولا يجيد الانحناء.
صنعاء، حين تتكلم، تُربك التوازنات. وغزة، حين تقاوم، تكشف الزيف وتُظهر الرجال. ومن بينهما، تخرج كلمة تُكمل ما بدأه الحسين في كربلاء، وما كتبه الشهداء في صبرا، وما دوّنه قاسم سليماني بدمه في مطار بغداد. إنها ليست مجرد كلمة… إنما مشعل على طريق طويل، لا تضيئه سوى نار العدل.