الغدير حيٌّ في اليمن.. أُمَّـة لا تخون العهد
الصمود||مقالات||بشير ربيع الصانع
ما إن يبدأ مساء الثامن عشر من شهر ذي الحجّـة، حتى تُطلّ على اليمن مشاهد ليست من الدنيا، بل من مواسم النور التي تحتفل بها الملائكة وتخفق لها قلوب المؤمنين. تتوشّح المدن والقرى بفرحٍ لا يُشبه أي فرح، وتتحول السماء إلى حديقة من نور، تُطلق فيها الألعاب النارية كما لو أن الكواكب تراقص اليمنيين حبًّا في الإمام علي عليه السلام. تعلو الأناشيد، وتخترق الأهازيج حواجز الصمت، لتقول لكل من له قلب: إن عليًّا هنا، في هذه البلاد، حيٌّ في وجدانها، حاضرٌ في ضميرها، محفوظٌ في دفاتر الولاء وألواح الحب منذ غدير خم وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
ومع بزوغ شمس يوم الغدير، تخرج جموع اليمنيين كما لو أنهم لبّوا نداءً قديمًا يتجدد في كُـلّ عام. لا تراهم متثاقلين ولا متردّدين، بل ترى فيهم وجوهًا مشرقة كأنها الوعد ذاته، وكأن كُـلّ واحد منهم يحمل في قلبه غدير خم. يملؤون الساحات، وتغص الشوارع بالرايات، وتتهادى كلمات الولاء في الألسنة كما تتهادى دموع الحب في العيون. لا فرق بين الكبير والطفل، فالجميع في حضرة الولاية سواء، وكلهم يقولون بقلوبهم قبل ألسنتهم: “هذا هو العيد الأكبر، هذا يوم عليّ، هذا يوم تمام النعمة وكمال الدين. “
حين تشاهد احتفالات اليمنيين في يوم الولاية، لا تشعر أنك في مناسبة أرضية، بل تشعر أنك في احتفال كوني، حَيثُ تتلاقى أرواح العاشقين وتتعانق الأشواق. تشعر أنك تحلق معهم في سماء من النور، حَيثُ لا وجود للظلم، ولا مكان للخذلان، بل وفاءٌ مطلقٌ يتجاوز حدود اللغة والمكان. ذلك الفرح ليس لحظة طارئة ولا مشهدًا عابرًا، بل هو خلاصة قرون من الحب الصافي، وتاريخ مكتوب بالصدق والدم والدموع، وتوارثته الأجيال عن قلوب أبت أن تنسى أَو تغدر.
وأنت تنظر إلى اليمنيين يحيون هذا اليوم العظيم، يتملكك شعور عميق، وكأنك في زمن الإمام علي نفسه، وكأنك تراه بين الجموع يبتسم، يرفع يده بالدعاء، وينظر إلى هؤلاء الأوفياء الذين لم يخونوا الوعد، ولم يبدلوا. إنهم لا يحتفلون بشخص، بل يحيون سيرة، ويجددون عهدًا، ويجسدون ولايةً لم تضعف، بل ازدادت قوة كلما امتد بها الزمان، وكلما اشتدت عليها المحن. وكأن الإمام علي، عليه السلام، حاضرٌ معهم بروحه الطاهرة، يتجول في عيونهم، ويسكن في هتافهم، ويرى فيهم الامتداد الحقيقي للغدير.
ليس غريبًا على هذا الشعب الذي استقبل رسول الله، صلى الله عليه وآله، واستجاب لدعوته، وآمن به قبل أن تنكسر أصنام مكة، أن يكون في طليعة الموالين لعلي عليه السلام. فأجدادهم بايعوا، وناصروا، وقالوا: “سمعنا وأطعنا”، يوم تخاذل المتخاذلون. ولم يكن ولاؤهم لعلي عليه السلام مُجَـرّد انفعال لحظي أَو انتماء عاطفي، بل كان خيارًا واعيًا، وبصيرةً متجذّرة، وإيمانًا متوارثًا لا تغيره العصور، ولا تنال منه الفتن. فبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله، لم يتردّدوا في المضيّ خلف أخيه ووصيه، بل واصلوا المسيرة بعزيمة الجبال، وصدق السنين، وولاءٍ لا يشيخ.
إن مشاعر اليمنيين في يوم الغدير ليست حالة موسمية تنقضي، بل هي امتداد لذلك اليوم الذي أرسل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا إليهم. فدخلوا الإسلام على يديه، وعرفوا نور التوحيد من نبرة صوته، وتعلّموا من خُلقه كيف يكون الإنسان عبدًا لله وحده، خاضعًا له في السر والعلن، ومواليًا لوصي نبيّه في السلم والحرب، في المنشط والمكره. ومنذ ذلك اليوم حتى اليوم، بل حتى يرث الله الأرض ومن عليها، سيبقى هذا الشعب وفيًّا لذلك الموقف، لذلك الرجل، لذلك النور.
فحبهم لعلي ليس مجاملة تاريخ، ولا ردًّا لجميل قديم، بل هو إيمانٌ بأن الطريق إلى الله يمرّ من بوابة الولاية، وأن بيعة الغدير كانت ختمًا للنبوة وابتداءً للإمامة، وأن الله لا يجتمع في قلب عبدٍ حبه وخذلان وليّه.
هذا الشعب لا يُقهر؛ لأَنَّه مشبع بالحقيقة. لا يُخدع؛ لأَنَّه عاشقٌ واعٍ، لا ساذجٌ متحمس. إذَا أحب لا يخون، وَإذَا عاهد لا ينكث. وَإذَا نطق بالولاء، ترجمه فعلًا وصبرًا وتضحية. مدرسة اليمن في الولاء لعلي، عليه السلام، ليست مدرسة عابرة، بل جامعة القلوب، ومنارة الثبات، ونموذجٌ يُحتذى في عالمٍ يتقلب فيه الناس كما تتقلب الريح. إنها مدرسة تُدرّس الصدق، وتخرّج الرجال، وتغرس في الأجيال مفاهيم لا تموت، ولا تذبل، ولا تُباع في أسواق السياسة والفتنة.
وفي ختام تلك الفعاليات العامرة بالحب والبهجة والولاء، وقف اليمنيون على صعيد يوم الولاية موقف أهل الوعد، فجددوا عهدهم مع الإمام علي عليه السلام، وأكّـدوا على وفائهم له، ماضين في درب الهدى بثبات لا يتزعزع، وإيمان لا يخبو. جددوا العهد والبيعة لحفيده السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي – روحي له الفداء – حامل راية الولاية في زمن الغربة، وامتداد الغدير في عصر التحدي. قالوها بقلوبهم قبل ألسنتهم: “نحن معك، نمضي، حَيثُ تمضي، لا نرجع، لا نتبدل، لا نخون، فأنت منّا ونحن منك، والولاية في أعناقنا ما بقي فينا نفس. “
كان ختام الاحتفال ميثاقًا إلهيًّا مكتوبًا بالصدق واليقين، أن اليمانيين على درب علي باقون، ومع السيد القائد ماضون، ومع الحق ثابتون، حتى يأذن الله بالنصر والتمكين، أَو نلقى الله على بصيرة.
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.