تصادم أمريكي غربي بشأن غزة أم التجارة؟.. الصوت الأوروبي يرتفع من ركام العجز
الصمود||تقرير||عبدالقوي السباعي
تصاعُدَ الصوت الأُورُوبي وتمرُّدَ بعض عواصمه -التي تشعُرُ أنها تُركت حمايةً واقتصادًا من ملتهِم الكعكة الأمريكي- قد يُشكّلُ بدايةً لتحولٍ أوسعَ
يشهد العالم تحولات متسارعة في المواقف من العدوان الإسرائيلي المُستمرّ على قطاع غزة المنكوب منذ عشرين شهرًا، حَيثُ تتقدّم بعض دول العالم بخطواتٍ جريئة نحو كسر الصمت، والدعوة إلى محاسبة الاحتلال ووقف تصدير السلاح إليه، وفتح المعابر الإنسانية.
إلا أن التحَرّكات الأُورُوبية خَاصَّة تصطدم بجدارٍ أمريكي متجذّر في الانحياز الكامل لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يؤكّـد أن واشنطن ترزح تحت نفوذ اللوبي الصهيوني وثقل المصالح الاستراتيجية، ولو على حساب المبادئ الإنسانية.
العنوان الصادم الذي تصدّر المشهد مؤخّرًا كان اقتراحًا فجًّا ووقحًا من السفير الأمريكي لدى كيان الاحتلال، “مايك هاكابي”، الذي خاطب فرنسا بالقول: “إن أردتم دولة فلسطينية.. ابنوها في الريفييرا”.
تصريحٌ لم يكن مُجَـرّد زلة لسان، بل اختزالٌ فجٌّ لرؤيةٍ أمريكيةٍ ترى في الفلسطينيين عبئًا على التقدم البشري ومتاعًا قابلًا للتصدير، وفي أُورُوبا مُجَـرّد تابع يجب تأديبه إن تجرأ الخروج عن خط المسار المرسوم.
وبينما تتصاعد المأساة الإنسانية في قطاع غزة، حَيثُ يواجه المدنيون مجازر متواصلة منذ 20 شهرًا، خرجت عدد من العواصم الأُورُوبية عن صمتها، وبدأت تحتج على العدوان بقوالب متعددة، وتطالب بتحَرّكاتٍ حقيقية لوقفه.
فرنسا، على وجه التحديد، تقود حراكًا سياسيًّا على مستوى الأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، في خطوةٍ رآها مراقبون تحوّلًا نوعيًّا في الموقف الأُورُوبي التقليدي الذي ظل، لفترةٍ طويلة، حبيس العبارات الدبلوماسية.
لم تقف التحَرّكات عند حدود فرنسا، بل شهدت عدد من العواصم الأُورُوبية تظاهرات حاشدة، وضغوطًا من الشارع على الحكومات لمقاطعة كيان الاحتلال ووقف الدعم العسكري له، وإدانة الانتهاكات الجارية في غزة.
مواقفُ اعتُبرت بمثابة صفعة لواشنطن وتأكيدًا على أن القارة العجوز لم تعد تتقبل دور “التابع الصامت”، كما ترى أن بإمْكَانها التخلص من الهيمنة الأمريكية ولو حتى من باب معاكسة التيار المراد عبوره أمريكيًّا.
وأمام كُـلّ هذا، لم يتأخر الرد الأمريكي طويلًا؛ ففي مقابلةٍ صاخبة على قناة “فوكس نيوز”، هاجم السفير الأمريكي لدى كيان الاحتلال، “مايك هاكابي”، المساعي الفرنسية بالقول: “إذا كانت فرنسا عازمة على رؤية دولة فلسطينية، فلديّ اقتراح لها: لتقتطع جزءًا من الريفييرا الفرنسية وتُقيم دولة فلسطينية هناك”.
طَرْحٌ وُصف بالمتغطرس والعنصري، يكشف حجم الاستياء الأمريكي من التمرد الأُورُوبي المتصاعد، ويؤكّـد أن واشنطن باتت ترى في أية مساعٍ للاعتراف بفلسطين خطرًا على خططها الاستراتيجية فيما يسمى بمشروع “الشرق الأوسط الكبير”، والتي تتماهى تمامًا مع مصالح كيان العدوّ الإسرائيلي.
“هاكابي”، الذي يُمثل مدرسة ترامب السياسية، وجناح اللوبي الصهيوني داخل واشنطن؛ لم يُخفِ عداءه للمبادرات الأُورُوبية، متهكمًا على “الضغط الفرنسي غير المرغوب”، ومؤكّـدًا أن “الولايات المتحدة ببساطة لن تشارك في هذه الحيلة”، على حَــدّ وصفه.
الاستياء الأمريكي من الحراك الأُورُوبي لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأشمل؛ فإدارة ترامب –التي تنهجُ سياسة (أمريكا أولًا) وتدعم حكومة الاحتلال بكل الوسائل الممكنة– باتت ترى في التحَرّكات الأُورُوبية تحديًا مباشرًا لهيبتها الدولية التي تسعى الترامبية لترسيخها، ومحاولة لإعادة التوازن في ظل سياسة التفرّد والهيمنة التي اتبعتها واشنطن طوال السنوات الماضية.
الأنظمة الأُورُوبية؛ إذ شعرت بأنها تُعامَلُ أمريكيًّا كأتباع لا كشركاء؛ بدأت تُصعّد من تحَرّكاتها لإثبات استقلاليتها لشعوبها، ليس فقط في الموقف من غزة، بل في قضايا عالمية عدّة، تتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية والتجارة والمناخ، وحقوق الإنسان، والتوازن الدولي… إلخ.
وهكذا، تحوّل العدوان على غزة من مُجَـرّد قضية إنسانية إلى ساحة صراع سياسي بين رؤيتين: – الأولى: رؤية أُورُوبية تزعم أنها تحاول استعادة قِيَمِ القانون الدولي وكرامة الشعوب -حتى وإن جاءت وفق بروتوكولات سياسية تنافسية متقاطعة المصالح-.
الثانية: تتمثل برؤيةٍ أمريكية تُقدّم المصالح الاستراتيجية وآليات التطبيع العربية مع كيان الاحتلال على كُـلّ المبادئ؛ فترامب يدعم العدوان، يُلغي العقوبات، يتجاهل محكمة العدل الدولية، ويُروّج لمشاريع مثل “ريفييرا غزة”.
اللافت أن الخلافات لم تعد تنحصر بين أُورُوبا وأمريكا فحسب، بل ظهرت مؤشرات توتر حتى بين “واشنطن وتل أبيب”، لكن من زاوية التكتيك لا المبادئ.
خلاف ترامب الوحيد مع مجرم الحرب نتنياهو لا يتعلّق بالمبادئ بل بالأدوات؛ فالأخير يُصر على مواصلة حرب الإبادة، فيما ترامب يبحث عن صفقاتٍ تخدم مصالح أمريكا في المنطقة؛ ما يُحول الخلاف إلى فرصٍ للضغط الدولي.
إدارة ترامب تسعى لاستثمار الوضع القائم لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، ربما بإعادة تفعيل “صفقة القرن” أَو هندسة مشروعٍ بديل، كـ”ريفييرا غزة”، الذي بات يُتداول كترويجٍ ساخر في بعض الدوائر السياسية الأمريكية.
لكن ذلك لا يُلغي حقيقة أن الولايات المتحدة ما زالت تلعب دور الحامي الأكبر للاحتلال، من خلال تعطيل قرارات مجلس الأمن، ورفض الانضمام إلى أية آلية أممية لمحاسبة الكيان، وُصُـولًا للتشكيك في قرارات محكمة العدل الدولية، وملاحقة قضاتها.
اليوم من الواضح أن المشهد الدولي بات أكثر وضوحًا في انقسامه؛ فيما يتساءل الجميع عن كفة الميزان الأرجح: من يقف مع الضحية.. ومن يقف مع الجلاد؟
أُورُوبا –رغم بطء تحَرّكها– تحاول اليوم الوقوف إلى جانب الضحية الفلسطينية، مدفوعة بضغطٍ شعبي وإنساني متصاعد، ودافع سيادي.
في المقابل، تقف واشنطن بقوةٍ إلى جانب القاتل، متجاهلة كُـلّ المعايير الدولية، بل وتهاجم أي صوت يدعو للعدالة أَو المحاسبة.
وبينما تُقصف غزة ليلًا ونهارًا، وتُزهق الأرواح على مرأى ومسمع العالم، تتحوّل التصريحات العنصرية إلى مؤشرات سياسية على اختلال القيم العالمية.
“دولة فلسطينية في الريفييرا” تعبيرٌ فاضح عن العقلية الأمريكية المريضة التي تُقايِضُ العدالةَ بالمصالح، وتتّخذُ من التهكُّمِ سلاحًا ضد أية مساعٍ للحرية والإنسانية.
ومع ذلك؛ فَــإنَّ تصاعُدَ الصوت الأُورُوبي، وتمرُّدَ بعض العواصم -التي تشعُرُ أنها تُركت حمايةً واقتصادًا من ملتهِم الكعكة الأمريكي- قد يُشكّلُ بدايةً لتحولٍ أوسعَ، يُعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية في وجدان العالم، ويضع حدًّا –ولو جزئيًّا– لهيمنة السياسة الأمريكية الصهيونية.