الصمود حتى النصر

سحابة ترامب الباردة

 

أحمد عز الدين 
لا أريد أن أخوض في مفردات هذا السيل من الأخبار والتعليقات، التي تضخ في الرأي العام قناعة زائفة بأن ترامب قد خرج من معادلته الأثيرة (سلام القوة)، وأنه أخرج “إسرائيل” من حساباته التكتيكية أو الاستراتيجية، سواء بفتح نافذة للتفاوض مع إيران، أو القبول بوقف إطلاق النار مع الجيش اليمني، أو بدفع شركتين أمريكيتين من العسكريين المتقاعدين لتوزيع بعض فوائض الطعام على الذين يحتضرون جوعاً في غزة، ذلك أن الترويج لمثل هذه القناعة إنما يعني تخفيض درجة الإحساس الوطني والإقليمي بالخطر، بينما تتأهب الاستراتيجية الأمريكية لوثبة جديدة في الإقليم.
1. لقد أعلنت “إسرائيل” حالة تعبئة لقوات الاحتياط، تحت دعوى رفع سقف التصعيد العسكري ضد حماس، مصحوبة بنشر دبابات “الميركافا” في أنساق دائرية فوق تباب مرتفعة في رفح، وهي تصوب مدفعياتها نحو سيناء، مع تمركزات عسكرية كثيفة على طول الحدود، ومحطات رصد وتجسس في محور “فيلادلفيا”، ونقل وحدات من القبة الحديدية، إضافة إلى استمرار عمل طائرات الاستطلاع “الإسرائيلية” (أيتان شحنون)، واستمرار المراقبة الجوية المباشرة بالمناطيد، وهو ما يعني تحويل جبهة المجهود الرئيسي في اتجاه مصر، مصحوباً بضغوط عسكرية مباشرة ومنظورة، تلويحاً بعمل عسكري يستهدف سيناء.
2. لقد نشر موقع “مدى مصر” عن عرض سعودي قُدم للولايات المتحدة ببسط جزيرتي تيران وصنافير تحت أقدام الجيش الأمريكي، لإقامة قاعدة عسكرية عليها، وهو ما تلا رفضاً مصرياً حاسماً لطلب أمريكي مزدوج بمشاركة قوات مصرية في الحرب على اليمن، وعبور السفن الأمريكية عسكرية وتجارية في قناة السويس دون دفع الرسوم. والحقيقة أن تكذيب ما نشره الموقع المذكور، الذي تموله وتحتضنه أجهزة أمريكية وبريطانية بعينها، ليس شأناً مصرياً، وما كان ينبغي أن يكون، فهذا شأن طرفيه؛ لأن ما كان يبدو تخليقه في فضاء الإقليم مستحيلاً قد أصبح واقعاً، وما كان يبدو ضرباً من الجنون أصبح يمثل العقل الخالص، وما كان يبدو محرماً أصبح تجسيداً شاذاً للمشروعية.
إن تطبيق القواعد القديمة على مستجدات التوجه الاستراتيجي الأمريكي في الإقليم، وعلى المتغيرات التي يواجهها الأمن القومي، فوق أنه عمل عقيم، فإنه عمل مضلل.
غير أن الأكثر بؤساً من ذلك هم أولئك الذين تطوعوا للبرهنة على أن الجزيرتين لا تصلحان لإقامة قاعدة عسكرية، تارة لأنها صخرية ولا تصلح للدبابات، وتارة لأن أمريكا لديها ما يفيض عن حاجتها من القواعد مثل قاعدتها في جيبوتي (التي تبعد 7 أميال بحرية فقط عن قاعدة صينية) أو أن قاعدة أمريكية فوق الجزيرتين لا علاقة لها بالملاحة في قناة السويس، لأنها يمكن أن تمنع المرور في البحر الأحمر من اتجاه واحد.
إن من المؤكد -أولاً- أن الجزيرتين ما تزالان تحت الإدارة المصرية (بغض النظر عن موضوع السيادة الذي يستحق إعادة النظر).
ومن المؤكد -ثانياً- أن الجيش المصري كان مصدر القوة الدافعة لعدم تسليم الجزيرتين، وذلك بسبب مشروع سابق لوضع أجهزة استشعار وكاميرات مراقبة فوقهما، بتوافق سعودي – “إسرائيلي”، وقد تدخلت الولايات المتحدة لتليين الدفاعات المصرية، ودعت إلى اجتماع ثلاثي مشترك، تنحّت مصر عن المشاركة فيه.
ومن المؤكد -ثالثاً- أنه في زاوية حرجة من الحرب الجيو-استراتيجية الأمريكية، فإن الولايات المتحدة تريد الاستحواذ على البحر الأحمر بكامله ومن جانبيه، جنوبه وشماله، من باب المندب وممره إلى المحيط الهندي، ومن قناة السويس التي تملك القفل والمفتاح معاً بين نصفي الكرة الأرضية الغربي والشرقي.
ومن المؤكد -رابعاً- أن ما ينبغي التركيز عليه هو حجم التهديد الذي تمثله فرضية وجود قاعدة أمريكية فوق الجزيرتين، ليس بالنسبة لانكشاف وحدات الجيش المصري على نحو كامل في سيناء فحسب، وإنما لأننا في هذه الحالة سنكون في مواجهة قاعدة تواجه شرم الشيخ، التي هي في حد ذاتها قاعدة الدفاع استراتيجياً بالدرجة الأولى عن كامل جنوب سيناء.
3. لقد قلت في مقال سابق إن مصر دخلت في مقدمة استدارة استراتيجية، كان أحد الوجوه المباشرة لها مناورة “نسور الحضارة” مع القوات المسلحة الصينية، بما تلاها وسبقها من سعي مصري لسد فجوات كبيرة في تكنولوجيا السلاح، تجاوزاً لما فرضته أمريكا على مصر من واقع تسليحي على امتداد أربعين عاماً، سواء على مستوى سلاحها الجوي، أو قواتها المدرعة، أو الصاروخية، فلم تسمح الولايات المتحدة لمصر بالحصول على أنظمة دفاع جوي بعيدة المدى، وإنما أصرت على إبقاء دفاعاتها الجوية تحت سقف الدفاعات القصيرة والمتوسطة، وهو ما ينطبق على السلاح الجوي، حيث حظرت تزويد طائرات الـ”إف 16″ بأي أنواع من الصواريخ يزيد مداها عن 150 كيلومتراً، وما ينطبق بدوره على مدافع الدبابات من طراز “إبرامز”، والصواريخ المضادة للدروع. ودون دخول في التفاصيل فإن الأمر نفسه طال كثيراً من المفاوضات مع دول الغرب للحصول على أسلحة تمثل أجيالاً متقدمة من تكنولوجيا السلاح. وعلى سبيل المثال فقد استمرت المفاوضات بين مصر وفرنسا عبثاً لمدة 8 سنوات للحصول على غواصات من طراز “سكوربيون”.
لكن الشاهد أن سعي الجيش المصري كان محموماً، لسد فجوات تكنولوجية في السلاح، فُرضت عليه لمدة أربعين عاماً، وأنه تمكن من إحراز نجاح ملموس في ذلك، ومن الحتمي استكماله، لتكتمل معه هذه الاستدارة الاستراتيجية. في الوقت نفسه فقد تمكن بما ابتناه من قواعد لوجستية وأنفاق وقواعد صواريخ ومطارات وحشد للقوات في شبه جزيرة سيناء، من إلغاء أهم ما كان يتمتع به الجيش “الإسرائيلي” من ميزة نسبية عالية وفرتها له بنود اتفاقية “كامب ديفيد”، وهي طول المسافة بين الحدود وقواته الضاربة، والتي تبعد عن قناة السويس 217 كيلومتراً، وهي مسافة كان نقل الذخائر وحدها معها، وفق التقديرات “الإسرائيلية”، يحتاج إلى عشرة أيام كاملة.
4. إن جانباً رئيسياً من دانات المدفعية الثقيلة التي استبقت زيارة ترامب قد طالت دور المملكة السعودية. والحقيقة أن السعودية قد فتحت بنفسها الأجواء أمام هذه المدفعيات، وقربت لها المسافات، تحت وهم استحقاقها للقيادة الإقليمية، وجلوسها منفردة على قمة النظام الإقليمي العربي، فقد مدت يدها بقوة إلى تركيا، بعد أن التهم الجيش التركي نصيبه من الكعكة السورية، ونظرت إلى النظام الإرهابي في سورية بأعلامه الطائفية بعيون مماثلة على أنه قابل لولاياتها عليه؛ لكن ضربات الطيران “الإسرائيلي” مؤخراً بعشرين غارة جوية على دمشق وحماه ودرعا، بما في ذلك جانب من القصر الجمهوري، وما استبقها من جلوس الأتراك و”الإسرائيليين” على مائدة تقاسم النفوذ في أذربيجان كما فرضه ترامب، قد أنهى الاختبار السعودي لأي دور أو مكانة هناك. والحقيقة أن الإخفاق السعودي في سورية كان وجهاً آخر للإخفاق في لبنان، رغم التحالف مع فرنسا التي استهدفت -سواء في سورية أو لبنان- الحصول على موطئ قدم شرق المتوسط، وقد كان أوضح مظاهره غياب القدرة على فرض انسحاب “إسرائيلي” من تسع نقاط في الجنوب، وفرض موقف بعينه على سلاح المقاومة.
إننا في النهاية أمام دوائر متصلة من الإخفاق السعودي، وأمام دور يشبه في المرايا المتتالية دور “هاملت”، بدءاً بالحرب على اليمن وانتهاء برفض تمويل ما يمكن أن يبني ردعا عربياً في مواجهة العدو، أو تمويل إعمار غزة، أو الصعود إلى مستوى أعلى ولو معنوياً في مواجهة التمدد “الإسرائيلي”، فقد أصبحت السعودية في موضع مساومات بالمال لشراء الأمن، ودون تأثير إقليمي إيجابي؛ لكن الدور والمكانة والقيادة تُشترى بأشياء أُخرى، قرأ اليمنيون آياتها بإرادة صُلبة وبصوت جهور.
5. إن ترامب يحيط زيارته الخليجية بسحابة باردة تحجب شمس الحقيقة، وتمد ظلالها فوق غابات مشتعلة، وخرائط فوضى وخراب، وحرائق قابلة للتمدد والانتشار:
أولاً: في ثنايا البيان العُماني عن وقف إطلاق النار بين أمريكا والجيش اليمني، تعبير كاشف هو “اتفق الطرفان”، وهو تعبير يكاد أن يصوغ معادلة بين قوتين متناظرتين. ومن المؤكد أن الاتفاق هو تعبير عن اعتراف فاجع بسقوط الردع الأمريكي في شمال البحر الأحمر؛ لكن ذلك لا ينبغي أن ينفي أن بُعداً آخر قد يكون مستتراً في خلفيته، وهو أن إيقاف النيران في الشمال هو مقدمة لنقل النيران وتكثيفها في الجنوب، أي في الدوائر التي تتلامس مع قناة السويس وشبه جزيرة سيناء.
ثانياً: إن الحديث عن تعيين حاكم عسكري أمريكي لغزة يعطي انطباعاً بأن عملية تهجير الفلسطينيين أصبحت مهمة أمريكية، قبل أن تكون “إسرائيلية”. والمهم في ذلك أن عملية التهجير نفسها لا يمكن لها أن تتم دون إشعال حريق أكبر كثيراً من مساحة غزة.
ثالثاً: ثمة تقديرات عسكرية غربية تؤكد أن الولايات المتحدة ليست كاملة الاستعداد عسكرياً لتنفيذ حرب كبيرة لفرض استراتيجيتها في الإقليم بالقوة المسلحة، وهي تحتاج إلى عدة شهور لإعادة بناء خرائطها وملئها بالقوات وبأعمال المخابرات المتقدمة عليها والمصاحبة لها، ولذلك فإننا في الأغلب الأعم أمام سحابة باردة لتمرير هذه الشهور بأشكال مختلفة من التلاعب والمفاوضات والتهدئات الموقوتة.
رابعاً: يتأهب ترامب لانتزاع أربعة تريليونات دولار من دول الخليج مقابل تغيير اسم “الخليج الفارسي” في الخطاب الأمريكي إلى “الخليج العربي”، ليكون الاسم مؤهلاً ليتحول إلى “الخليج الأمريكي”، ومقابل إرسال جنوده المتقاعدين باسم تقديم الغذاء والدواء للفلسطينيين بهدف حشرهم بين محوري فيلادلفيا وموراج، وتسهيل مهمة ترحيلهم بعد تعيين حاكم أمريكي عليهم.
خامساً: تلك سحابة باردة في سماء الإقليم وضعها ترامب فوق رأس زيارته، ولكن بقاءها لن يطول.
لا ميديا
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com