الصمود حتى النصر

الأخبار.. ابن زايد و استمرار سياسة المغامرة في الداخل والخارج

الصمود | على عجل، دُفن خليفة بن زايد، وكأن المقصود هو طي هذه الصفحة من تاريخ الإمارات، التي بدا، وإن طالت بها السنون، أنها وقت ضائع بين حكْم المؤسس زايد بن سلطان آل نهيان، وبين حكم ابنه محمد الذي وُلد ليكون رئيساً للدولة، وأُعد أميركياً – من الأساس – لهذه المهمة، لكنه مع التحول الأخير في سياسة الولايات المتحدة، نقل البندقية من الكتف الأميركية إلى الكتف الإسرائيلية.

كان مريبا أن يتم دفن جثمان الرئيس الإماراتي الراحل، خليفة بن زايد، في مراسم بسيطة وسريعة، بخلاف ما يحصل عادة عند وفاة أحد شيوخ الإمارات الكبار أو أحد حكامها، ثم أن تتحول الوفاة إلى تظاهرة مبايعة عربية ودولية لمحمد بن زايد، الذي اختاره حكام الإمارات الست الأخرى، بالإجماع، رئيسا، بينما كان المغيب الرئيس هو الشعب الذي لا يؤخذ رأيه في مثل هذه المحطات.

وأظهرت التعليقات القليلة على وسائل التواصل الاجتماعي، مستوى الخوف الذي يعيش في ظله الإماراتيون، بخاصة أنهم يعلمون مسبقا نتيجة أي تعليق سياسي قد لا يعجب السلطات، بعدما رأوا ما حل بالإسلاميين من سجن ونفي على مدى السنوات الماضية، التي مارس خلالها ابن زايد مهام الحاكم الفعلي للدولة.

منذ توليه الرئاسة، في عام 2004، بعد وفاة زايد، لم يكن خليفة مطلق اليد في الحكم. فقد عين زايد ابنه محمد، في عام 2003، نائبا لولي عهد أبو ظبي لضمان تسلمه الرئاسة بعد خليفة، إنْ لم يكن في ظله.

ومن البداية، كان خليفة محاطا بستة إخوة هم أبناء فاطمة الكتبي، الزوجة الثالثة والمفضلة لزايد، التي حرصت على تربيتهم على التضامن في ما بينهم، واستخدمت مكانتها عند الأب، لتحضيرهم لتسلم مواقع النفوذ في الدولة.

وهؤلاء الذين يشملون إضافة إلى محمد، هزاع وطحنون ومنصور وعبدالله وحمدان، يحتلون، حاليا، كل المناصب السياسية والأمنية والمالية الأساسية، من بين عدد كبير من أبناء زايد من زوجات أخرى.

ولطالما أثيرت أسئلة عما إذا كان خليفة عاجزا فعليا أم أنه أقصي من الحكم من قبل أبناء فاطمة، لا سيما عندما عرضت له صور غير لائقة بدا فيها فاغرا فمه، بينما كان يقوم أخوه محمد بالسلام عليه. وهذا ليس غريبا على قصور الحكم في الخليج الفارسي، التي يتم أحيانا اقتناص السلطة فيها استباقا للمسار المرسوم، باستغلال لحظات تاريخية ملائمة.

لن يحتل خليفة، الذي تفيد الرواية الإماراتية غير الرسمية، بأن جلطة دماغية، في عام 2014، جعلته عاجزا تماما عن أداء مهامه، ذلك الحيز في تاريخ الإمارات، الدولة الفتية التي جمعت بين سبع إمارات صغيرة في عام 1971، وهو تاريخ يكتب جزء أساسي منه الآن.

فلم يرتبط اسمه بأي من التحولات التي شهدتها الدولة تحت قيادته، بينما ينسب إلى الرئيس الجديد افتتاح عهد التدخل العسكري والسياسي للدولة في الخارج، مستخدما قوة أموال النفط، والجيش الإماراتي الذي أشرف بنفسه على بنائه منذ أن كان ضابطا فيه تحت حكم والده، وحرص على تنظيم بنيته العسكرية بالشكل الذي يناسب حكمه الآتي، وتسليحه بأفضل الأسلحة المسموح أميركيا وإسرائيليا للإمارات بامتلاكها، وبكلفة هائلة تقدر بمئات مليارات الدولارات، على مدى السنين.

هذه الأسلحة، لا سيما منها الطائرات الحربية التي حرص ابن زايد على انتقاء مواصفاتها شخصيا، استخدمت في الاعتداءات التي شاركت فيها الدولة، بخاصة في اليمن، كما في المناورات والعروض الجوية المتكررة بالمشاركة مع إسرائيل، إما للتدرب على مواجهة “الأعداء المشتركين”، وإما لتعزيز الصداقة مع العدو، الذي صار الضامن الأول الجديد لأمن نظام ابن زايد بدلا من الولايات المتحدة، التي تكاد تصبح العلاقة معها مماثلة لتلك التي يقيمها حاكم الإمارات، أو يطمح لإقامتها، مع روسيا والصين، للحصول على مزيد من الضمانات لهذا الأمن.

لطالما أثيرت أسئلة عما إذا كان خليفة عاجزا فعليا أم أنه أقصي من الحكم

العلاقات مع أميركا تضررت بعدما رأى ابن زايد، كما غيره من حكام الخليج الفارسي، كيف تتخلى واشنطن عن حلفائها حين تنقضي مصالحها معهم، وهو كما يبدو خيار يخضع للمراجعة في واشنطن التي عاكستها الظروف بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، حين استغل ابن زايد نافذة الفرصة التي أتاحها ارتفاع أسعار النفط، ليضغط على الأميركيين.

وسيكون مستقبل تلك العلاقة على الطاولة حين تترأس نائبة الرئيس الأميركي، كمالا هاريس، وفدا إلى أبو ظبي، اليوم، لمبايعة ابن زايد، لا سيما أن أميركا ما زالت تحتفظ بنحو 3500 جندي في قاعدة الظفرة الجوية قرب العاصمة. لكن حضور الرئيس الإسرائيلي، يتسحاق هرتزوغ، الذي سبقها إلى الإمارات، يؤكد وجهة رهانات ابن زايد في الآتي من الأيام.

هذه السياسة التي اضطر ابن زايد لإعادة النظر في بعض جوانبها، حينما اتضحت له كلفتها العالية، أوصلت الإمارات إلى أن تعرضت لقصف متكرر في عمقها من قبل حركة “أنصار الله” ردا على العدوان السعودي – الإماراتي على اليمن، إلا أن هذه المراجعة تبقى جزئية وغير ذات قيمة، ما دامت أبو ظبي مستمرة في اللعبة الخطرة التي ينطوي عليها إحضار “إسرائيل” إلى قلْب الخليج(الفارسي) المطل على إيران.

ما زال المحدد الأول لسياسة ابن زايد هو الخوف. لا حليف دائما ولا خصم دائما. فقد تميز حكمه الفعلي، بداية، بحملة قمع قاسية ضد الإسلاميين، لا سيما منهم “الإخوان المسلمون”، ثم انتهى به الأمر متصالحا مع كبيرهم الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان. كذلك، سعى إلى تحريض الأميركيين والإسرائيليين على إيران، ثم عندما شعر بأنها أقوى من أن يستطيع التآمر عليها، أرسل لها الموفدين مناديا بأفضل العلاقات معها.

وتصادم أخيرا مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بعدما اختلف معه على حرب اليمن، وعلى مساعي الأخير للاستيلاء على دور الإمارات الاقتصادي، بعدما كان هو من علمه كيف تكون انقلابات القصور، وزكاه عند الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. ثم عاد واتفق مع ابن سلمان على السير مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في التحكم بسوق النفط بشكل يضر بالمصالح الأميركية.

كان زايد يملك السليقة اللازمة ليمارس الحكم، مع الأخذ في الاعتبار النسيج القبلي للإمارات، كما محيطها الجغرافي. الرئيس الجديد، في المقابل، تخلى عن هذه السياسة لمصلحة سياسة مغامرة تقوم على الاستبداد في الداخل، والاستعانة بالخارج البعيد على المحيط القريب والداخل معا، وهي سياسة ستكون لها ارتدادات على الدولة، إذا ما فشلت خياراته.

المصدر: جريدة الأخبار

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com